التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ومنها كاذبة ومنها كفرية ، وهذا إنّما يتّجه على رأي جمهور الأشاعرة القائلين بجواز العكس ـ بأن يجعل الله كلّ ما حرّمه واجبا وبالعكس ـ المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، لا على رأي محقّقيهم ولا على رأي المعتزلة ولا على رأي أصحابنا.
اللهمّ إلّا أن يقال : تواترت الأخبار عنهم عليهمالسلام بأنّ الله يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا (١) فبقي الإشكال في الظنّ الباطل. ويمكن أن يقال : إنّه من الميول القلبية. والإنصاف أنّ الفرق بين الجزم والظنّ بأنّ الجزم من الكيفيات النفسانية الفائضة على النفوس من المبدأ والظنّ من الميول الطبيعية القلبية ، بعيد عن الصواب. [ فتبيّن أنّ كلاهما من الميول القلبية الطبيعية ] (٢).
وأقول : لقائل أن يقول : الأحاديث السابقة صريحة في أنّ التصديقات القلبية الإيمانية الّتي يرتفع بها الشكّ مخلوقة لله تعالى وللعباد اكتساب الأعمال. وفي الأحاديث تصريحات بأنّ من جملة نعماء الله تعالى على بعض عباده أنّه يسلّط عليه ملكا ليسدّده ويلهمه الحقّ ، ومن جملة غضب الله تعالى على بعض عباده أنّه يخلّي بينه وبين الشيطان ليضلّه عن الحقّ ويلهمه الباطل (٣). وأيضا من المعلوم : أنّ خلق الإذعان الغير المطابق للواقع قبيح لا يليق به تعالى.
فالجواب الحقّ عن الإشكال أن يقال : التصديقات الصادقة فائضة على القلوب من الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة ملك وهي تكون جزما وظنّا ، والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان ، وهي لا تتعدّى الظنّ فلا تصل إلى حدّ الجزم [ ولك أن تقول في جواب القائل : إنّ وسوسة الشيطان سبب لفيضان المفهومات والظنون على القلوب من الله تعالى ككلام المضلّ من بني آدم ، وليست للشيطان قدرة على خلق المفهومات في نفوسنا ولا خلق الظنّ ولا للملك. وفي خلق الظنون الصحيحة والفاسدة بحسب أسبابها منافع كثيرة وبه ينتظم المعاش والمعاد ، فلا نسلّم أنّ خلقها قبيح ، وإنّما كان قبيحا إذا اكتفى به ولم يخلق في القلوب يقينا معارضا له
__________________
(١) راجع مجمع البيان سورة الأنفال ٢٤.
(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.
(٣) الكافي ١ : ١٦٦ ، ح ٢.