وطبيعي أنّه لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات ، لأنّه ليس ثمّة مانع من أن تدوّن أعمال الإنسان في عدّة كتب ، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم ، إذ من أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما ، هناك نظام وحساب لكل قسم ، ثمّ إنّ هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حساب جديد.
ولكن يجب الانتباه إلى أنّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم ، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران ، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإنسان نفسه.
في كل الأحوال ، نرى أنّ الآيات التي نبحثها تظهر أنّه علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة ، فإنّ نفس الأعمال ستتجسّد هناك وستحضر : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً).
فالأعمال التي تكون شكل طاقات متناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت ، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنّ أي مادي أو طاقة لا يمكن أن تفنى ، بل يتغير شكلها دائما).
ففي ذلك اليوم تتحوّل هذه الطاقة الضائعة بإذن الله إلى مادة ، وتتجسّد على شكل صور مناسبة ، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة ، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة ، وهذه الأعمال ستكون معنا ، ولهذا السبب نرى أنّ آخر جملة في الآيات أعلاه تقول : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لأنّ الثواب والعقاب يترتبان على نفس أعمال الإنسان.
بعض المفسّرين اعتبر جملة (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) تأكيدا على قضية صحيفة الأعمال ، وقالوا : إنّ معنى الجملة هو أنّنا سنجد جميع أعمالنا مدوّنة في ذلك الكتاب (١).
البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مقدّرة وقالوا : إنّ المعنى هو
__________________
(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والقرطبي في التّفسير الجامع.