والتعبير بـ (اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ربما كان إشارة إليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب ، وضعيه في الصندوق ، وألقيه في نهر النيل ، ولا تدعي للخوف سبيلا إلى نفسك.
كلمة «التابوت» تعني الصندوق الخشبي ، ولا يعني دائما الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض ، بل إنّه له معنى واسعا ، حيث تطلق أحيانا على الصناديق الأخرى أيضا ، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة (١).
ثمّ تضيف : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) والملفت أن كلمة «عدو» قد تكررت هنا ، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله ، ولموسى وبني إسرائيل ، وأشارت إلى أن الشخص الذي انغمس إلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزا عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعند ما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم ، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم ، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!
ولما كان موسى عليهالسلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر ، فقد ألقى الله قبسا من محبّة عليه ، إلى الحد الذي لم ينظر إليه أحد إلا ويعشقه ، فلا يكف عن قتله وحسب ، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه ، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فأي درع عجيب هذا الحب! إنّه لا يرى بالعين ، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!
يقولون : إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة ، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إلى فرعون ، إلّا أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد ، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها ، وطوّقت محبته رقبتها ، وابتعدت
__________________
(١) راجع المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة.