وأعيد زين الدين بن بندار ؛ وذلك لمّا انتزع الملك الأفضل عليّ بن السلطان صلاح الدين بن أيّوب مملكة مصر من ابن أخيه المنصور محمد العزيز عثمان (١) ؛ وكتب له الصّاحب ضياء الدين (٢) نصر الله بن الأثير الجزري تقليدا ، هذه صورته :
(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩]. من السّنة أن تفتتح صدور التقليدات بدعاء يعمّ بفضله ، ويكون وزانا للنعمة الشاملة من قبله ، وخير الأدعية ما أجراه الله على لسان نبيّ من أنبيائه أو رسول من رسله ، وكذلك جعلنا من هذا التقليد الذي أمضى الله قلمنا في كتابه ، وصرف أمرنا في اختيار أربابه ، ثمّ صلّينا على رسوله محمد الصادع بخطابه ، الساطع بشهابه ، الذي جعلت الملائكة من أحزابه ، وضرب له المثل بقاب قوسين في اقترابه ؛ وعلى آله وصحبه الّذين منهم من خلفه في محرابه ، ومنهم من كملت به عدّة الأربعين من أصحابه ، ومنهم من جعل أثواب الحياء من أثوابه ، ومنهم من بشّر أنّه من أحباب الله وأحبّائه ، أمّا بعد :
فإنّ منصب القضاء في المناصب بمنزلة المصباح الّذي به يستضاء ، أو بمنزلة العين التي عليها تعتمد الأعضاء ؛ وهو خير ما رقّمت به الدول مسطور كتابها ، وأجزلت به مذخور ثوابها ، وجعلته بعد الأعقاب كلمة باقية في أعقابها. وقد جعله الله ثاني النبوّة حكما ، ووارثها علما ؛ والقائم بتنفيذ شرعها ما دام الإسلام يسمّى ، لا يستصلح له إلّا الواحد الذي يعدّ محفلا في محفله ، وإذ جاءت الدنيا بأسرها خفّت على أنمله ، وقد أجلنا النظر مجتهدين ، وعوّلنا على توفيق الله معتضدين ، وقدّمنا قبل ذلك صلاة الاستخارة وهي سنّة متبوعة ، وبركة في الأعمال موضوعة ؛ لا جرم أنّا أرشدنا في أثرها إلى من صرّح الرشد فيه بآثاره ، وقال الناس هذا هو الّذي جاء على فترة من وجود انتظاره ؛ وهو أنت أيّها القاضي فلان ، مهّد الله لجنبك ، وجعل التوفيق من صحبك ، وأنزل الحكمة على يدك ولسانك وقلبك ؛ وقد قلّدناك هذا المنصب بمدينة مصر وأعمالها ، وهي مصر من الأمصار تجمع وجوها وأعيانا ، وقد رسم بأنّه كرسيّ مملكته عزّا وتبيانا وعظمت سلطانا ، ولما قلّدناك هو علمنا أنه سيعود وهو بك غضّ طريّ ، وإنّ ولايته نيطت منك بكفء فهي بك حريّة وأنت بها حريّ ، ممن طلبها ومن النّاس فإنّها لم تكن عندك مطلوبة ، ومن انتسب في وجاهته إليها فليست وجاهتك إليها منسوبة ، وما أردت بها شيئا سوى تحمّل الأثقال ، وبيع الراحة بالتعب في الأشغال ؛ وتعريض النّفس
__________________
(١) المنصور محمد بن العزيز عثمان. [النجوم الزاهرة : ٦ / ١٣٧].
(٢) شذرات الذهب : ٥ / ١٨٧.