لمضاضة الضيم والحيف ، والوقوف على الصّراط الّذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف ؛ ولكنك في خلال ذلك تشتري الجنّة بساعة من ساعاتك ، وإذا رعيت مقام ربّك فقد أرصدته لمراعاتك ؛ وليس في الأعمال الصالحة أقوم من إحياء حقّ وضع في لحده ، أو ردّ حقّ مطلت الأيام بردّه.
فاستخر الله تعالى ، وتولّ ما ولّيناك بعزيمة لأنّك بها شامة ، ولا تأخذها في الله ملامة. وهذا زمان قد تلاشت فيه العلوم ، وعفت رسوم الشريعة حتّى صارت كالرّسوم ، ومشت الأمّة المطيطى (١) وخلفها ابنا فارس والروم ؛ وإذ نظر إلى دين الله وجد وقد خلط أمره خلطا ، وتخطّى رقاب النّاس من هو جدير بأن يتخطّى ، وآذنت الساعة بالاقتراب حتّى كاد أن يستوي ما بين السبابة والوسطى ؛ والمتصدّي لحفظه يعدّ ثقله بثقلين ، وفضله بفضلين ، ويؤتيه الله من رحمته كفلين ، وحقّ له أن يتقدّم على السلف الصالح الّذي كان كثيرا رشده ، حسنا هديه وقصده ، وكان قريبا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فإنّ أولئك لم يؤتوا من جهالة ، ولا حرموا من مقالة ، ولا حدث في زمانهم بدعة وكلّ بدعة ضلالة ، ونحن نرجو أن يكون ذلك الرّجل الذي وزن بالنّاس فرجح وزنه ، وسبق القرون الأول وإن تأخّر قرنه. ولقد ألبسنا الله بك لباسا يبقى جديدا ، ويسّرنا للعمل الذي يكون محضرا ، لا للعمل الذ نودّ لو أنّ بيننا وبينه أمدا بعيدا. وإيّاك ثمّ إيّاك أن تقف معنا موقف الاعتذار ، وما نخشى عليك إلا الشيطان الناقل للطباع في تقاليب الأطوار ، ولطالما أقام عابدا من مصلّاه ، وغرّه بامتساك حبله ودلّاه ، ولمكانتك عندنا أضربنا عن وصيّتك صفحا ، وتوسّمنا أن صدرك قد شرحه الله فلم نزده شرحا ؛ والذي تضمّنه تقليد غيرك من الوصايا لم يسفر إلا عن نقاب خطأ الأقلام ، وقصر أقوالها عن المماثلة من مراتب أولي التعليم وبين العلماء الأعلام ، ولا يفتقر إلى ذلك إلّا من ثقل منصب القضاء على كاهله ، وقضى جهله بتحريمه عليه ، وفرق بين عالم أمر وجاهله.
وأمّا أنت فإنّ علم القضاء بعض مناقبك ، وهو من أوانسك لا من غرائبك ؛ لكن عندنا أربع من الوصايا لا بدّ من الوقوف فيها على سنن التوقيف ، وإبرازها إلى الأسماع في لباس التحذير والتخويف : فالأولى منهنّ ، وهي المهمّ الذي زاغت عنه الأبصار ، وهلك من هلك فيه من الأبرار ، ولربما سمعت هذا القول فظننته ممّا تجوّز في مثله القائلون ، وليس كذلك بل هو نبأ عظيم أنتم غافلون ، وسنقصّه عليك كما فوّضناه إليك ؛ وذلك هو التسوية في الحكم ين أقوالك وأفعالك ، والأخذ من صديقك لعدوّك ومن يمينك لشمالك. وقد علمت أنّه لم تخل دولة من الدولة من قوم يعرفون بطيش
__________________
(١) المطيطى : التبختر.