وبعد أن بوّأناك هذه المكانة ، وحمّلناك هذه الأمانة ، فقد رأينا أن نجمع لك من تنفيذ الأحكام وحفظ أصولها ، وألّا نخليك من النّظر في دليلها ومدلولها ؛ فإنّ التّرك يوحش العلوم من معهود أماكنها ، ويذهب بها من تحت أقفال خزائنها ، ومنصب التّدريس كمنصب القضاء أخ يشدّ من عضده ، ويكثر من عدده ؛ فتولّ المدرسة الفلانيّة عالما أنّك قد جمعت بين سيفين في قراب ، وسلكت بابين إلى تحصيل الثواب ، وركبت أعزّ مكان وهو تنفيذ الحكم وجالست خير جليس وهو الكتاب.
ونحن نوصيك بطلبة العلم وصيّتين ؛ إحداهما أعظم من الأخرى ؛ وكلتاهما ينبغي أن تصرف إليهما من اهتمامك شطرا ؛ فالأولى أن تتخوّلهم (١) في أوقات الاشتغال ، وتكون لهم كالرّائض الذي لا يبسط لهم بساط الراحة ولا يكلّفهم مشقّة الكلال. والثّانية أن تدرّ عليهم أرزاقهم إدرار المسامح ، وتنزلهم فيها على قدر الأفهام والقرائح ؛ وعند ذلك لا تعد منهم منبعا في كلّ حين ، ويسرّك في حالتيه من دنيا ودين ؛ والله يتولّاك فيما تنويه صالحة ، ويوفّقك للعمل بها لا لأن يكون في قلبك سانحة. وقد فرضنا لك في بيت المال قسما طيّبا مكسبه ، هنيئا مأكله ومشربه ؛ لا تعاقب غدا على كثيره ، وإن حوسبت على فتيله ونقيره (٢). والمفروض في هذا المال ينبغي أن يكون على قدر الكفاف لا على نسبة الأقدار ، وربّ متخوّض فيما شان نفسه من مال الله ومال رسوله ليس له في الآخرة إلّا النار ؛ والدنيا حلوة خضرة تلعب بذوي الألباب ، وعلاقاتها بتجدّد الأيام فلا تنتهي الآراب منها إلّا إلى آراب. ومن أراد الله به خيرا لم يسلك إليها ، وإن سلك كان كمن استظلّ بظلّ شجرة ثمّ راح وتركها ، ونحن نخلص الضراعة والمسألة في السّلامة من تبعاتها ، وأن نوفّق لرعي ولاية العدل والإحسان إذ جعلنا من رعاتها.
وهذا التّقليد ينبغي أن يقرأ في المسجد الجامع بعد أن يجمع له النّاس على اختلاف المراتب ، ما بين الأباعد والأقارب ، والعراقيب (٣) والذوائب (٤) ، والأشائب (٥) وغير الأشائب ؛ ولتكن قراءته بلسان الخطيب وعلى منبره ، وليقل : هذا يوم رسم بجميل صيته واعتضاض محضره ؛ ثمّ بعد ذلك فأنت مأخوذ بتصفّح مطلوبه على الأيّام ، وإثباته في قلبك بالعلم الذي لا يمحى سطره إذا محيت سطور الأقلام.
__________________
(١) تخوّل : تعهّد.
(٢) الصغير والكبير.
(٣) العراقيب : مفردها العرقوب عصب غليظ فوق العقب.
(٤) الذوائب : مفردها الذؤابة : شعر مقدم الرأس.
(٥) الأشائب : أخلاط الناس.