ودعاهم إلى البيعة لعليّ ، فبايعوا ، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها خربتا ، فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان ، وكانوا سادة الناس ووجوههم ، وكانوا في نحو من عشرة آلاف ، منهم بسر بن أرطأة ، ومسلمة بن مخلّد ، ومعاوية بن حديج وجماعة من الأكابر ، وعليهم رجل يقال له يزيد بن الحارث المدلجيّ ، وبعثوا إلى قيس ابن سعد فوادعهم وضبط مصر ، وسار فيها سيرة حسنة.
قال ابن عبد الحكم : لمّا ولي قيس مصر اختطّ بها دارا قبليّ الجامع ، فلما عزل كان الناس يقولون : إنّها له ، حتّى ذكرت له ، فقال : وأيّ دار لي بمصر؟ فذكروها له فقال : إنّما تلك بنيتها من مال المسلمين ، لا حقّ لي فيها.
ويقال : إن قيسا أوصى لمّا حضرته الوفاة : إني كنت بنيت دارا بمصر وأنا واليها ، واستعنت فيها بمعونة المسلمين ؛ فهي للمسلمين ينزلها ولاتهم.
وكانت ولاية قيس مصر في صفر سنة ست وثلاثين. فكتب معاوية إلى قيس يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان ، وأن يكون هو أزرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك ، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تمّ له الأمر. فلمّا بلغه الكتاب ـ وكان قيس رجلا حازما ـ لم يخالفه ولم يوافقه ، بل بعث يلاطف معه الأمر ؛ وذلك لبعده من عليّ ، وقربه من بلاد الشام ؛ وما مع معاوية من الجنود ، فسالمه قيس وتاركه ؛ فأشاع بعض أهل الشام أنّ قيس بن سعد يكاتبهم في الباطن ، ويمالئهم على أهل العراق.
وروى ابن جرير أنّه جاء من جهته كتاب مزوّر بمبايعته معاوية ، فلمّا بلغ ذلك عليّا اتّهمه ، وكتب إليه أن يغزو أهل خربتا الذين تخلّفوا عن البيعة ، فبعث يعتذر إليه بأنّهم كثير عددهم ، وهم وجوه الناس ، وكتب إليه : إن كنت إنّما أمرتني بهذا لتختبرني لأنّك اتّهمتني ، فابعث على عملك بمصر غيري.
فولّى عليّ على مصر محمد (١) بن أبي بكر ، وارتحل قيس إلى المدينة ، ثم ركب إلى عليّ ، واعتذر إليه ، وشهد معه صفّين ، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الأمر ، مهيبا بالديار المصرية ، حتّى كانت وقعة صفّين ، وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق ، وصاروا إلى التحكيم. فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر ، واجترؤوا عليه ، وبارزوه بالعداوة ، وندم عليّ بن أبي طالب على عزل قيس من مصر لأنّه كان كفؤا لمعاوية وعمرو. فلمّا فرغ عليّ من صفّين ، وبلغه أنّ
__________________
(١) في الكامل لابن الأثير ٣ / ١٣٩ : وقيل : بعث الأشتر النخعي فمات بالطريق.