عند ذلك طلب عضد الدولة من أبي بكر بن شاهويه (١) ، أن يذهب إلى الخرنباوي ويأمره بالذهاب إلى البصرة ، ويقول له : إنّ عضد الدولة يقول لك : إذهب إلى البصرة ، وسنعطيك عملا فيها ترتزق منه ، فقد طال متابعتك لنا ، وقد ضجرنا منك ، وليس عندنا ما تحبّه ، والسلامة لك في بعدك عنّا ، فصاحبنا أبو القاسم ، قد استصحب جماعة ، ونحن في غنى عن أمثالك ، فانصرف عنّا ، واكتف بما أرتّبه لك إن شاء الله (٢).
وكان عضد الدولة قد أرسل شخصا آخر مع ابن شاهويه ، ليكون شاهدا على ما يدور بينه وبين الخرنباوي ، ولمّا وصل ابن شاهويه إلى الخرنباوي ، قال له جميع ما أمره به عضد الدولة ، فقال الخرنباوي : (السمع والطاعة لأمر الملك ، فإن الناس بجدودهم ينالون ، وبحظوظهم يستديمون ، وتقدم عنده من أنا أرجّح منه ، ولكنّ المقادير غالبة ، وليس للإنسان متقدم عنها ، ولا متأخّر ، وقد قيل (ومن غلب الأقدار غلب). ولكن أيّها الشيخ لي حاجة أرجو أن توصلها إلى الملك نيابة عنّي ، وهي كلمة فيها نصيحة ، وشفاء لمّا في الصدور. وهي أن تقول للملك : (إنّي صائر إلى ما أمرت ، ومتوجّه إلى البصرة ، لامتثال ما رسمت ، ولكن بعد أن تقضي وطرا في نفسي ، وفيه شهرة لعظمتك ، وتنبيه على أنّك لا تنخدع في ملكك ، ولا يلبس لديك محقّ بمبطل ، وعاقل بجاهل ، ومسيء بمحسن ، ويقظان بغافل ، وجواد بباخل ، وأن لا يقام عبد العزيز المكنى بأبي القاسم بين اثنين على رؤوس الأشهاد ، وينتقم منه انتقاما بالغا ، ويقال له : إذا لم تبذل جاهك لمتلهفّ ، ولم يكن عندك بسر لضعيف ، ولا فرج لمكروب ، ولا عطاء لسائل ، ولا جائزة لشاعر ... الخ
__________________
(١) وكان شاهويه صديقا للخرنباوي.
(٢) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ٨٦.