فلمّا دنوا من العدوّ ورأوا كثرته وقوّته قالوا : نكتب إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بخبر العدوّ وعدده فيأمرنا ويمدّنا. فقال عبد الله بن رواحة : يا قوم ، إنّ التي تكرهون التي خرجتم تطلبون ـ يعني الشهادة ـ وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ، وما نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين إمّا ظهور وإمّا شهادة (١).
فوافقه الجيش كلّه على هذا الرأي ونهضوا ، فلمّا لقوا المشركين اقتتلوا فقتل الأمير الأوّل ملاقيا بصدره الرماح والراية في يده ، فأخذها جعفر ابن أبي طالب واقتحم عن فرسه وقيل عقرها ، فقاتل على الراية حتّى قطعت يمينه فأخذ الراية بيساره / [س ٧٩] فقطعت فاحتضنها بصدره حتّى قتل عليها ـ رضياللهعنه ـ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فقال النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أعاره الله جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء ـ فأخذ الرّاية بعده عبد الله بن رواحة فقاتل حتّى قتل ثمّ أخذ الرّاية خالد بن الوليد فانحاز بالمسلمين.
وإنّما القصد من هذا الحديث ثبات الراية والمحافظة عليها وكيف السنّة في أمرها ، وأنّ الذي يتولّى إمساكها يجب أن يكون من له إقدام وشجاعة وعلم بالحرب ودين لا يفلّه خور مريرة ولا عور بصيرة ، فحيث انتقلت الراية انتقلت معها القلوب ، وإن أدبرت تبعها نفس الجلد / [م ٤١] والهيوب ، وذلك الذي حمل زيد بن الخطّاب (٢) في حرب
__________________
(١) انظر أخبار غزوة مؤتة في السيرة النبوية ٢ : ٨٢٨ وما بعدها.
(٢) زيد بن الخطاب ت ١٢ ه ـ ٦٣٣ م : زيد بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى القرشي العدويّ ، أبو عبد الرحمن ، صحابيّ ، من شجعان العرب في الجاهلية والإسلام ، وهو أخو عمر ابن الخطاب ، وكان أسنّ من عمر ، وأسلم قبله وشهد المشاهد ثم كانت راية المسلمين في يده يوم اليمامة فثبت إلى أن قتل وحزن عليه عمر حزنا شديدا ـ الإصابة ٣ : ٢٧ برقم ٢٨٩١ والأعلام ٣ : ٥٨.