روي أنّ عمر رضياللهعنه قال لأهل القادسية حين انهزموا : أنا فئة لكلّ مسلم (١) ، ولم ير ذلك مالك رحمهالله. فلا يجوز الانهزام من المثلين فما دون ذلك ، وقد كان الله تعالى فرض في أوّل الإسلام قتال عشرة من الكفرة فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢) ثمّ خفّف ذلك لقوّة الإسلام وكثرة أهله ، وفرض على كلّ رجل قتال رجلين بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٣) فحرم الانهزام من المثلين فأقلّ وهو مذهب مالك وأصحابه ، وأنّ الفرار من الكبائر ونحوه.
وعن ابن عبّاس أنّ الآية محكمة وحكمها باق إلى اليوم وعن الحسن وقتادة والضحاك أنها مخصوصة بأهل بدر والله أعلم. ويجوز إذا زادوا على ذلك ولم يجدوا إلى المصابرة سبيلا.
روي أنّه لما رجع جيش مؤتة تلقّاهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فجعل المسلمون يحثون التراب عليهم ويقولون : يا فرّار ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : ليسوا بالفرّار ولكنّهم الكرّار إن شاء الله (٤).
__________________
(١) الأحكام السلطانية : ٤٥ ونهاية الأرب ٦ : ١٦٠
(٢) الأنفال ٨ : ٦٥.
(٣) الأنفال ٨ : ٦٦.
(٤) انظر الخبر في السيرة النبوية ٢ : ٨٣٦ وورد بعد هذا الكلام في السيرة قوله (صلىاللهعليهوسلم) : أنا فيئكم والصواب : أنا فئة لكم إذ لا معنى للفيء في هذا السياق. وعنه اقتبس عمر بن الخطاب قوله المذكور أعلاه. ومعناه : أنه لا يجوز للمقاتل أن يترك القتال ويولّي إلا لاستراحة أو لمكيدة ثم يعود إلى القتال وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم سواء قربت الفئة أو بعدت. وانظر الكلام في ذلك في الأحكام السلطانية ٤٥ ونهاية الأرب ٦ : ١٦٠.