فلما جنّ الليل خرجت تلك الأشخاص على عادتها فرأوا تلك الأشخاص على الأعمدة ففروا (١) راجعين للبحر خائفين من تلك الأشخاص ولم يطلعوا بعد ذلك.
ذكر بناء المنار بالإسكندرية وعجيب مرآته :
قال المسعودي : أما منار الإسكندرية ، فإنه من أحد عجائب الدنيا. ولم يكن في بناء أعلى منها قبل هدمها ، فكان ارتفاعه ألف ذراع بذراع العمل ، وفي أعلاها تماثيل من نحاس وغيره ، فيهم من هو مشير بسبابته نحو الشمس أين كانت في الفلك ، ويدور معها حيث كانت ، وإذا هوت للغروب يهوي بأصبعه معها كأنه يخاطبها.
وأيضا بها تمثال :
إذا قرب العدو من البلد / من جهة البر يصرخ ذلك التمثال صوتا عظيما يسمع من مقدار ميلين ، فيعلموا أن عدوا طرقهم فيخرجوا له قبل وصوله.
والمرآة متكفلة بجهة البحر ، حتى أن الناظر فيها ليرى من بلاد الإفرنج وأهلها وما يقول الناظر كأنه واقف بينهم.
فإذا قدم عدو صبروا إلى أن تصير الشمس في قبة الفلك فيلقوا وجه المرآة مع شعاع الشمس لجهة تلك المراكب فتشتعل فيهم النار. حتى كان هدم المنار وبطلان إرصاده في خلافة عبد الملك بن مروان بحيلة من ملك الإفرنج.
جاء من بلده رجل زعم أنه من خواص الملك وأنه غضب عليه ونفاه من ملك الإفرنج لأنه قال إنه يحب المسلمين ، فاتهمه بالإسلام خفية ، فلما وصل لعبد الملك أظهر إسلامه ثم بعد ذلك أظهر دلائل بخبايا كانت في الشام ، فاتبعوا آثارها فكانت كما قال. ثم لما تمكنت منزلته عند عبد الملك ورأى صحة مقالاته قال : إن بمنار الإسكندر ما جمعه من الدنيا من مال ومعدن وآلات وتحف ما لم يقدر على مثله ملوك الدنيا. فإن رأى ذلك أظهرته له.
فقال عبد الملك : هذا هو القصد ، لكن أخاف على المنار وتمثال المنار لا يضرها شيء مما نهدمه ونحفره.
فأمره بالتوجه إليها ، فلما وصلها أمر بهدم أعلاها إلى أن هدم ما يزيد على نصف طولها حتى وصل إلى مكان طلسماتها فكسرها ، وقال : هذه الموانع موضوعة برسم الإسكندر ، فلما تم له ما أراد ، وجاء بسببه ، هرب تلك الليلة في مركب كان معدا له من غير علم أحد.
__________________
(١) في المخطوط : فرا ، وهو تحريف.