فالمكلف وحده لا يصل إلى هذه المقامات ، ولا يتخلص من تبعات المعاصي ، كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم لا يكون له أثر وإنّما يؤثر إذا انضمّ عمل المكلف إلى هدايتهم ، وهدايتهم إلى عمل المكلف فعندئذ تتحقق هذه الغاية.
وبهذا تبيّن أنّ هذه الشفاعة لغوية ، لا تمت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، وذلك لأنّ جميع هذه الأمور ، أعني اتّباع المكلف وقيادة الأنبياء وهداية القرآن ، غير متحققة إلاّ في الظروف الدنيوية وإن كانت تظهر النتيجة التامة في الحياة الأخروية ، والشفاعة المصطلحة عبارة عن تحقق الشفاعة في الحياة الأخروية وظهور نتائجها فيها ، وعندئذ يكون بين الشفاعتين بون بعيد.
والدليل على أنّ ظرف الشفاعة المصطلحة هو الحياة الأخروية : ما ورد في القرآن الكريم ، حيث عرف ظرفها اليوم الأخروي ، إذ قال سبحانه : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (١).
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (٢) وقال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٣) وقال سبحانه : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَحِيمُ ) (٤).
فأنت إذا لاحظت هذه الآيات وأمعنت النظر في كلمة ( يَوْمَ ) التي وردت في هذه الآيات مكررةً ، تقف على أنّ ظرف إعمال الشفاعة وتحققها وظهور نتائجها
__________________
(١) البقرة : ٤٨.
(٢) البقرة : ٢٥٤.
(٣) طه : ١٠٩.
(٤) الدخان : ٤١ ـ ٤٢.