نقول : إنّ العقل مصنع الفكر ، ومادّة العقل ثمار الحواس ، فلولا الحواسّ لبقيت ماكنة العقل ساكنة مستقرّة ، فالمشاهدات والمسموعات والملموسات مؤنة العقل التي يعمل بها طبق أدواته وأنساقه وقواه ، فيخلق منها فكراً وإبداعاً وإيماناً إذا شاء وأراد. لذا فالعقل ينهض بالمادّة ، والتفكير هكذا ، أي أنّ المادّة محرّك العقل نحو الإنتاج. وهذا بخلاف الكوجيتو الديكارتي الذي يقدّم التفكير على المادّة.
إذن العين مادّة فاعلة ومفعولاتها موادّ أيضاً ، وهذا ثابت بالحسّ والتجربة ، لكنّ العين ينتهي دورها ووظيفتها عند هذا الحدّ ، فهي مادّة مستقبلة لمادّة اُخرى ، أشبه باليد التي تستلم الشيء لتحوّله إلى صاحبه ، فصاحب الشيء ليس من استلم الشيء بالضرورة ، فإنّه يغايره ربما ، وهكذا العين تستلم عبر المشاهدة والرؤية مفعولاتها وتحوّلها إلى العقل ليعمل عليها دورته المفروضة ، وإذا لم يعمل العقل بوظائفه فالمتّهم الأوّل الظاهري هنا هي العين ، وفي الحقيقة هي المظنون التجوّزي في القضيّة ; إذ المخالفة إن حصلت فهي مخالفة العقل حيث لم يعمل بوظائفة الواقعيّة ، ولكنّ المتوّرط الملموس هي العين ، فإلقاء القبض الظاهري يحصل بحقّ العين ، أمّا العقل فلا وجود ظاهري له حتى يُلقى القبض عليه.
وقد تحقّق من ذلك : أنّ العمى هو عمى العقل حقيقةً لا عمى العين ; إذ الأخيرة عملت بواجباتها على النحو المطلوب لكنّ العقل الذي قصّر في أداء مهامّه.