المأمور به بطريق النهي ، عن خلاف المأمور به ، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروف بأنه لا يشير بالخير ، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عمر «ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدّنيّة في ديننا» وكما قال سهل بن حنيف يوم صفين «أيها الناس اتّهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله فعله لفعلنا والله ورسوله أعلم» بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلّا خيرا ، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا تنبيها لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان ، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السّلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام ، والكلام على معنى لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ، وما فيه من الاستعارة تقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨] الآية.
وقوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي.
وأصل الزلل الزلق أي اضطراب القدم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به ، واستعمل الزلل هنا مجازا في الضّر الناشئ عن اتباع الشيطان من بناء التمثيل على التمثيل ؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة ، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضا بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله : (زَلَلْتُمْ) تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازا والمجاز هنا في مركبه.
والبينات : الأدلة والمعجزات ومجيئها ظهورها وبيانها ، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته.
وجيء في الشرط بإن لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه. وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة. وقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) جواب الشرط ، و (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، مفعول (فَاعْلَمُوا) ، والمقصود علم لازمه وهو العقاب.