العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالا ، وكان جمهور أموالهم حاصلا من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم ، فكان جمهور العرب إما زارعا أو غارسا أو مغيرا أو صائدا ، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها ، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغارا لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة ، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها ، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه ، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالا وإن كثر. وتغلّب ذلك على ملاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيرا مدحورا ، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه ، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازما لمعنى الخصاصة والإهمال والذل ، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) [الضحى : ٦]. فلما جاء الإسلام أمرهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية.
والإصلاح جعل الشيء صالحا أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد ، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله ، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه ، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر ، وصلاح المال نماؤه المقصود منه ، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة.
و (إِصْلاحٌ لَهُمْ) مبتدأ ووصفه ، واللام للتعليل أو الاختصاص. ووصف الإصلاح ب (لَهُمْ) دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف ، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) [يوسف : ٥٩] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخا معهودا عنده ، والمقصود هنا