هذه المخالفة ترمي إلى غرض ، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر ، وقد زاد ذلك إيضاحا بقوله عقبه : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم ، فأباح لكم التعريض تيسيرا عليكم ، فحصل بتأخير ذكر (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) وجاء النظم بديعا معجزا ، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف ، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر (١) ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر ، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ (٢).
فقوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك دل عليه الكلام ، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضا ؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين ، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن كما تقول : علمت أنك تفعل كذا تريد : إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه ، وقد علمت فعله ، لآخذنه كما قال : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) [البقرة : ١٨٧] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل : هذا استدراك على كلام محذوف أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن ، أي لا تصرحوا وتواعدوهن ، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج.
والسر أصله ما قابل الجهر ، وكنى به عن قربان المرأة قال الأعشى :
ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها |
|
عليك حرام فانكحن أو تأبدوا |
وقال امرؤ القيس :
ألا زعمت بسباسة الحي أنني |
|
كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي |
والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقته ، فيكون (سِرًّا) منصوبا على الوصف لمفعول مطلق أي وعدا صريحا سرا ، أي لا تكتموا المواعدة ، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة.
__________________
(١) قال الفخر : لما أباح التعريض وحرم التصريح في الحال قال : أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى تحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة للعزم على التصريح في المستقبل.
(٢) قال : فائدة عطف أَوْ أَكْنَنْتُمْ الإشعار بالتسوية بين التعريض وبين ما في النفس في الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما.