وقال مهلهل حين قتل بجيرا :
«بؤ بشسع نعل كليب»
والبواء : الكفاء. وقد عدّت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأنّ الرّأس قد حواها وإنّما يقصد القاتل الرأس ابتداء.
وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) هو من بقية ما أخبر به عن بني إسرائيل ، فالمراد ب (فَمَنْ تَصَدَّقَ) من تصدّق منهم ، وضمير (بِهِ) عائد إلى ما دلّت عليه باء العوض في قوله (بِالنَّفْسِ) إلخ ، أي من تصدّق بالحقّ الذي له ، أي تنازل عن العوض. وضمير (لَهُ) عائد إلى (فَمَنْ تَصَدَّقَ). والمراد من التصدّق العفو ، لأنّ العفو لمّا كان عن حقّ ثابت بيد مستحقّ الأخذ بالقصاص جعل إسقاطه كالعطيّة ليشير إلى فرط ثوابه ، وبذلك يتبيّن أن معنى (كَفَّارَةٌ لَهُ) أنّه يكفّر عنه ذنوبا عظيمة ، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمّة.
وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شرع لحكم عظيمة : منها الزجر ، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه ، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم. فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح ، وهو ظلم ، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو وليّه. وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس ، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو ، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو. ولم ينبّه عليه المفسّرون. وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه.
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم. والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّدا للّذي في الآية السابقة. ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون.
[٤٦ ، ٤٧] (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ