في الشّرائع مقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان ، وهو بهذا الوصف مصدّق ، أي محقّق ومقرّر ، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة.
وقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزل الله إليك في القرآن ، أو بما أوحاه إليك ، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه الله بحكم جديد ، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لمن قبلنا. فحكم النّبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التّوراة ، فيحتمل أنّه كان مؤيّدا بالقرآن إذا كان حينئذ قد جاء قوله : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما». ويحتمل أنّه لم يؤيّد ولكن الله أوحى إلى رسوله أنّ حكم التّوراة في مثلهما الرجم ، فحكم به ، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم. وقد اتّصل معنى قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) بمعنى قوله : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٤٢] ؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] ، ولكنه بيان سمّاه بعض السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحيّة.
والنّهي عن اتّباع أهوائهم ، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يحكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم ، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه ، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة ، لأنّ نزول القرآن مهيمنا أبطل ما خالفه ، ونزوله مصدّقا أيّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه.
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله ، فالمقصود من هذا النّهي : إمّا إعلانذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون ، فخطاب النّبيء صلىاللهعليهوسلم بقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٩] مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس ، مثل قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. وإمّا تبيين الله لرسوله وجه ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرقا للترجيح ، وذلك أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لشدّة رغبته في هدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم ، لأنّهم وعدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به. فقد يقال : إنّهم لمّا تراضوا عليه لم لا يحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام ، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها ، وأنّ مصلحة احترام الشّريعة بين أهلها أرجح من