ذكره في هذه السورة ، فهي على وتيرة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) [المائدة : ٤٩] فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليت بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب. والفريقان متظاهران على الرسولصلىاللهعليهوسلم : فريق مجاهر ، وفريق متستر ، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفّار ، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدّة النّبيء صلىاللهعليهوسلم لأنّ الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الّذين هوّن أمرهم في قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] فهم المعنيّون من (النَّاسِ) في هذه الآية ، فالمأمور بتبليغه بعض خاصّ من القرآن.
وقد علم من خلق النّبيء صلىاللهعليهوسلم أنّه يحبّ الرفق في الأمور ويقول : إنّ الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كلّه (كما جاء في حديث عائشة حين سلّم اليهود عليه فقالوا : السام عليكم ، وقالت عائشة لهم : السام عليكم واللّعنة) ، فلمّا أمره الله أن يقول لأهل الكتاب (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة : ٥٩ ، ٦٠] الآية ، وكان ذلك القول مجاهرة لهم بسوء أعلمه الله بأنّ هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالّتي هي أحسن ، فتكون هذه الآية مخصّصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الّذي في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨].
ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعر بمنتهى شرفه ، إذ كان واسطة بين الله وخلقه ، والمذكّر له بالإعراض عمّن سوى من أرسله.
ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثّاني موقع زائد على موقعه في الخطاب الأول ، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده ، وهو قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، كما قال تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩].
فكما ثبّت جنانه بالخطاب الأوّل أن لا يهتمّ بمكائد أعدائه ، حذّر بالخطاب الثّاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن ، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم ، إذ لعلّه يزيدهم عنادا وكفرا ، كما دلّ عليه قوله في آخر هذه الآية (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨].
ثم عقّب ذلك أيضا بتثبيت جنانه بأن لا يهتمّ بكيدهم بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ