والرسل الّذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرميا وحزقيال وداود وعيسى. فالمراد بالرّسل هنا الأنبياء : من جاء منهم بشرع وكتاب ، مثل موسى وداود وعيسى ، ومن جاء معزّزا للشّرع مبيّنا له ، مثل يوشع وأشعيا وأرميا. وإطلاق الرّسول على النّبيء الّذي لم يجىء بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدّم ، لأنّه لمّا ذكر أنّهم قتلوا فريقا من الرسل تعيّن تأويل الرسل بالأنبياء فإنّهم ما قتلوا إلّا أنبياء لا رسلا.
وقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا) إلخ انتصب (كُلَّما) على الظرفيّة ، لأنّه دالّ على استغراق أزمنة مجيء الرسل إليهم فيدلّ على استغراق الرسل تبعا لاستغراق أزمنة مجيئهم ، إذ استغراق أزمنة وجود شيء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء ، فما ظرفية مصدريّة دالّة على الزّمان.
وانتصب (كلّ) على النّيابة عن الزّمان لإضافته إلى اسم الزّمان المبهم ، وهو (ما) الظرفية المصدرية. والتقدير : في كلّ أوقات مجيء الرّسل إليهم كذّبوا ويقتلون. وانتصب (كُلَّما) بالفعلين وهو (كَذَّبُوا) و (يَقْتُلُونَ) على التّنازع.
وتقديم (كُلَّما) على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلّف ، لأنّهم يريدون بتقديمه الاهتمام به ، ليظهر أنّه هو محلّ الغرض المسوقة له جملته ، فإنّ استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرّسل في جميع الأوقات دليل على أنّ التّكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلّفان ، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر ، وذلك أظهر في فظاعة حالهم ، وهي المقصود هنا.
وبهذا التّقديم يشرب ظرف (كُلَّما) معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له ، كما تصير أسماء الشّرط متقدّمة على أفعالها وأجوبتها في نحو (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨]. إلّا أنّ (كُلَّما) لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعدّ في أسماء الشرط لأنّ (كلّ) بعيد عن معنى الشرطية. والحقّ أنّ إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النّحاة تسامح. وقد أطلقه صاحب «الكشاف» في هذه الآية ، لأنّه لم يجد لها سببا لفظيا يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) في سورة البقرة : [٨٧] ، وفي قوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [١٠٠] في تلك السورة ، فإنّ التّقديم فيهما تبع لوقوعهما متّصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك ، وإن كان قد سكت عليهما في «الكشاف» لظهور أمرهما في تينك الآيتين.