وقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عطف على جملة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ، أي لقد كفروا كفرا إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم. ومعنى (عَمَّا يَقُولُونَ) أي عن قولهم المذكور آنفا وهو (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). وقد جاء بالمضارع لأنّه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنّما يكون عن شيء مستمرّ كما ناسب قوله (قالُوا) قوله (لَقَدْ كَفَرَ) ، لأنّ الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزّمن الماضي. ومعنى (عَمَّا يَقُولُونَ) عمّا يعتقدون ، لأنّهم لو انتهوا عن القول باللّسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك ، فلمّا كان شأن القول لا يصدر إلّا عن اعتقاد كان صالحا لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصّريح. وأكّد الوعيد بلام القسم في قوله (لَيَمَسَّنَ) ردّا لاعتقادهم أنّهم لا تمسّهم النّار ، لأنّ صلب عيسى كان كفّارة عن خطايا بني آدم.
والمسّ مجاز في الإصابة ، لأنّ حقيقة المسّ وضع اليد على الجسم ، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتّصال ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأنعام : ٤٩] ، فهو دالّ على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدّة أو ضعف ، وإنّما يرجع في الشدّة أو الضعف إلى القرينة ، مثل (أَلِيمٌ) هنا ، ومثل قوله (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأنعام : ٤٩] في الآية الأخرى ، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة :
مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا |
|
إلى حسب في قومه غير واضع |
أي تتبّعنا أصول آبائنا.
والمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) عين المراد ب (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) فعدل عن التّعبير عنهم بضميرهم إلى الصّلة المقرّرة لمعنى كفرهم المذكور آنفا بقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) إلخ ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئا إلى سبب الحكم المخبر به عنه. وعلى هذا يكون قوله (مِنْهُمْ) بيانا للّذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهّم السامع أنّ هذا وعيد لكفّار آخرين.
ولمّا توعّدهم الله أعقب الوعيد بالترغيب في الهداية فقال : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ). فالتّوبة هي الإقلاع عمّا هو عليه في المستقبل والرجوع إلى الاعتقاد الحقّ. والاستغفار طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي والنّدم عمّا فرط منهم من سوء الاعتقاد.