عن إراقة النجاسة في الطرق. وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنّه أقام قولا بطهارة عين الخمر من المذهب.
وأقول : الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليست نجس العين ، وأنّ مساق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها ، إنّما القصد أنّها رجس معنوي ، ولذلك وصفه بأنّه من عمل الشيطان ، وبيّنه بعد بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ) ، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك ، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس.
وجملة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) بيان لكونها من عمل الشيطان. ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) في سورة النساء [٤٤].
وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) في هذه السورة [٦٤].
وقوله : (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي في تعاطيهما ، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات ، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم ، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر ، والغيظ والحسرة للخاسر ، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب. على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة ، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمر أمّة بين أفرادها البغضاء. وفي الحديث : «لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا».
و (في) من قوله (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) للسببية أو الظرفية المجازية ، أي في مجالس تعاطيهما.
وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلما في الخمر من غيبوبة العقل ، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح.
وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم ، فلا جرم أن كان اجتماعها مقتضيا تغليظ التحريم. ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قمار كالشطرنج دون قمار ، فذلك دون الميسر ، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ،