لهم فيه الكعبة معلما لتوحيد الله تعالى ، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه حرمته. ودعا مجاوريهم إلى حجّه ما استطاعوا ، وسخّر الناس لإجابة تلك الدعوة ، فصار وجود الكعبة عائدا على سكان بلدها بفوائد التأنّس بالوافدين ، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق ، وبما يجلب التجّار في أوقات وفود الناس إليه ؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء. وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفانا. وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم : ٣٧]. فكانت الكعبة قياما لهم يقوم به أود معاشهم. وهذا قيام خاصّ بأهله.
ثم انتشرت ذرّية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهلت بلاد العرب. وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم ؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يحدث بين الأمّة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني ، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة ، وهو رجب الذي سنّته مضر (وهم معظم ذرية إسماعيل) وتبعهم معظم العرب. وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إيّاهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائدا بينهم مدة ثلث العام ، يصلحون فيها شئونهم ، ويستبقون نفوسهم ، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم ، فيما نجم من ترات وإحن. فهذا من قيام الكعبة لهم ، لأنّ الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة.
وقد جعل إبراهيم للكعبة مكانا متّسعا شاسعا يحيط بها من جوانبها أميالا كثيرة ، وهو الحرم ، فكان الداخل فيه آمنا. قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧]. فكان ذلك أمنا مستمرا لسكّان مكة وحرمها ، وأمنا يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذا ، ولتحقيق أمنه أمّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس ، فكانت الكعبة قياما لكلّ عربي إذا طرقه ضيم.
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء ، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب ، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه ، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد ، فلتعطّلت التجارة والمنافع. ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار ، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللّتين قال الله تعالى فيهما : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ