لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد |
|
ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا |
قال السديّ : كثرة الخبيث هم المشركون ، والطيّب هم المؤمنون. وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عددا من المسلمين ؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذ إلى تلك الأصقاع ، وقيل : أريد منها الحرام والحلال من المال ، ونقل عن الحسن.
ومعنى (لا يَسْتَوِي) نفي المساواة ، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة. والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية ، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول ، فإنّ جعل أحدهما خبيثا والآخر طيّبا يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب. وتقدّم عند قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) في سورة آل عمران [١١٣]. ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد ، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر ، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثا قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين ، ولذلك قال (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ). فكان الخبيث المقصود في الآية شيئا تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته ، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته.
فقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) من جملة المقول المأمور به النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أي قل لهم هذا كلّه ، فالكاف في قوله : (أَعْجَبَكَ) للخطاب ، والمخاطب بها غير معيّن بل كلّ من يصلح للخطاب ، مثل (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٢٧] ، أي ولو أعجب معجبا كثرة الخبيث. وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية.
وليس قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيرا ولا أن يكون أكثر من الطيّب من جنسه ، فإنّ طيّب التمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها ، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيرا فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدوكم إلى متابعته لكثرته ، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها ، أو كثرة الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة. والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) في سورة براءة [٥٥].
وفي «تفسير ابن عرفة» قال : «وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له : هذه تدلّ