انطلاق الموت. وهذا قول مالك في «الموطّأ» ، ورواية جمهور أصحابه عنه. وعن مالك : أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغا أنفذت معه مقاتلها ، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة ، لا تصحّ ذكاتها ، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة. وهذه رواية ابن القاسم عن مالك ، وهو أحد قولي الشافعي. ومن الفقهاء من قالوا : إنّما ينظر عند الذبح أحيّة هي أم ميّتة ، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح. وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك ، واختاره ابن حبيب ، وأحد قولين للشافعي. ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة ، أمّا إذا لم تنفذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل ، إذ هو حينئذ حيوان مرضوض أو مجروح ، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة ، إلّا أنّ يقال : إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن ، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات ، وهو بعيد. ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ، ولا وجه له إلّا أن يكون ناظرا إلى غلبة هذا الصنف بين العرب ، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيرا ، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدركوها بالذكاة.
(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنشرات فوق الأنصاب. والنصب ـ بضمّتين ـ الحجر المنصوب ، فهو مفرد مراد به الجنس ، وقيل : هو جمع وواحده نصاب ، ويقال : نصب ـ بفتح فسكون ـ (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج : ٤٣]. وهو قد يطلق بما يرادف الصنم ، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة ، والنصب بما كان صخرة غير مصوّرة ، مثل ذي الخلصة ومثل سعد. والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنّها تمثال للآلهة ، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب. وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنّما كانوا ـ يتّخذها كلّ حيّ ـ يتقرّبون عندها ، فقد روى أئمّة أخبار العرب : أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة ، وهم ولد إسماعيل ، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبة حجر ، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة ، فنصبوا هذه الأنصاب ، وربما طافوا حولها ، ولذلك يسمّونها الدّوار ـ بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ـ ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم. وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة. وعن أبي رجاء العطاردي في «صحيح البخاري» : كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا خيرا منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا (أي في بلاد الرمل) جمعنا