تفاريع أنواع الاهتداء ؛ عرض لبعض الناس قديما في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبيصلىاللهعليهوسلم.
أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودع العوّام». وحدث في زمن أبي بكر : أخرج أصحاب «السنن» أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (يا أيّها الناس إنّكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده. وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة (أي النصيحة) ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم (يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم). وعنه أيضا: إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه. وعن عبد الله بن عمر أنه قال : إنّها (أي هذه الآية) ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال : «ألا ليبلّغ الشاهد الغائب» فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
فما صدق هذه الآية هو ما صدق قول النبي صلىاللهعليهوسلم في تغيير المنكر : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة. فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفا.
وقوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) عذر للمهتدي ونذارة للضالّ. وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين