وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] ، وقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)(١)(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله.
وذكر هذا المتعلّق إلزاما لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية. وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) في هذه السورة [١٧].
وجواب عيسى ـ عليهالسلام ـ بقوله : (سُبْحانَكَ) تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة. وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهمّ من تبرئته نفسه ، على أنّها مقدّمة للتبرّي لأنّه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنّه لا يأمر به أحدا. وتقدّم الكلام على (سُبْحانَكَ) في قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) في سورة البقرة [٣٢].
وبرّأ نفسه فقال : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) ؛ فجملة (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) مستأنفة لأنّها جواب السؤال. وجملة (سُبْحانَكَ) تمهيد.
وقوله : (ما يَكُونُ لِي) مبالغة في التبرئة من ذلك ، أي ما يوجد لديّ قول ما ليس لي بحقّ ، فاللام في قوله : (ما يَكُونُ لِي) للاستحقاق ، أي ما يوجد حقّ أن أقول. وذلك أبلغ من لم أقله لأنّه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول.
والباء في قوله (بِحَقٍ) زائدة في خبر (لَيْسَ) لتأكيد النفي الذي دلّت عليه (لَيْسَ). واللام في قوله (لَيْسَ لِي بِحَقٍ) متعلّقة بلفظ (بِحَقٍ) على رأي المحقّقين من النحاة أنّه يجوز تقديم المتعلّق على متعلّقه المجرور بحرف الجرّ. وقدّم الجارّ والمجرور للتنصيص على أنّه ظرف لغو متعلّق (بِحَقٍ) لئلا يتوهّم أنّه ظرف مستقرّ صفة لحق حتى يفهم منه أنّه نفى كون ذلك حقّا له ولكنّه حقّ لغيره الذين قالوه وكفروا به ، وللمبادرة بما يدلّ على تنصّله من ذلك بأنّه ليس له. وقد أفاد الكلام تأكيد كون ذلك ليس حقّا له بطريق المذهب الكلامي لأنّه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحقّ له ، فعلم أنّ ذلك ليس حقّا له وأنّه لم يقله لأجل كونه كذلك. فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنّن.
__________________
(١) في المطبوعة : (ما لا ينفعهم ولا يضرهم) وهو خطأ ، والمثبت هو الموافق للمصحف.