فأصبح مرهوبا بأسه ، ومنع المشركين من الحجّ بعد عام ، فحجّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تبيّن واضحا يوم الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية.
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأنّ الدين في كلّ يوم ، من وقت البعثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوما فيوما ، فمن كان من المسلمين آخذا بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين.
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ ، إذ قد مكّنهم يومئذ من أداء حجّهم دون معارض ، وقد كمل أيضا سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكّنه من قلب بلاد العرب. فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك.
ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن : لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنّها آخر آية نزلت ، وسورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [النصر : ١] كذلك ، وقد عاش رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد نزول آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نحوا من تسعين يوما ، يوحى إليه. ومعنى (اليوم) في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نظير معناه في قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ).
وقوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) إتمام النعمة : هو خلوصها ممّا يخالطها : من الحرج ، والتعب. وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فيكون متعلّقا للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلا يوم نزول هذه الآية. وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم ، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفا ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أن مكّنهم من أشدّ أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن