نزوله لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وأنت تعلم : أنّ الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن ، إنّما بيّنتها السنّة ، وكذلك الماديّات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويّة ، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريّات ، والحاجيات ، والتحسينات ومكمل كلّ واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة : وهو السنّة ، والإجماع ، والقياس ، إنّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنّه قال : «لعن الله والواشمات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيّرات خلق الله» فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : «لعنت كذا وكذا» فذكرته ، فقال عبد الله : «وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله» ، فقالت المرأة : «لقد قرأت ما بين لوحي المصحف ، فما وجدته» ، فقال : «لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه» : قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧]» اه.
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة ، المتلقّين عنه ، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتابا في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أنّ أحدا قصر نفسه على علم القرآن فوجد (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣] و (آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١] و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] و (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] ، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة ، وأيضا ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣].
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدئ ضعيفا ثم أخذ يظهر ظهور سنا الفجر ، وهو في ذلك كلّه دين ، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلّا وقد أسلم كثير من أهل مكّة ، ومعظم أهل المدينة ، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكّن الدين وخدمته القوة ،