المذكور في هذه وفي التي قبلها يوما واحدا ، وكانت هذه الجملة تعدادا لمنّة أخرى ، وكان فصلها عن التي قبلها جاريا على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منّة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ (الْيَوْمَ) ليتعلّق بقوله (أَكْمَلْتُ) ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله : (يَئِسَ) فلم يقل : وأكملت لكم دينكم.
والدّين : ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم. وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) في سورة آل عمران [١٩]. فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام ـ التي آخرها الحجّ ـ بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وقوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة ، كافيا في هدي الأمّة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافيا في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون. ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخه ، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شئون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ. وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصا ، ولكن أحوال الأمّة في الأمميّة غير مستوفاة ، فلمّا توفّرت كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية. وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة.
فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع. وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض. فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم ـ والعياذ بالله ـ ولم يبق بينهم إلّا القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم. قال الشاطبي : «القرآن ، مع اختصاره ، جامع ولا يكون جامعا إلّا والمجموع فيه أمور كلّية ، لأنّ الشريعة تمّت بتمام