على أنّ دخول (من) التي هي لتعدية (يَئِسَ) على قوله (دِينِكُمْ) ، إنّما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه.
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوّه. وفي الحديث : «ونصرت بالرّغب». فلمّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم ، فقال : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أو لأنّ اليأس لمّا كان حاصلا من آثار انتصارات المسلمين ، يوما فيوما ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكّر الله المسلمين بذلك بقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، وإنّ فريقا لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئا لأحرياء بأن لا يخشى بأسهم ، وأن يخشى من خذلهم ومكّن أولياءه منهم.
وقد أفاد قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طيّ إحداهما. وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ :
تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا |
|
وليست على غير الظبات تسيل |
ونظيره قوله الآتي (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤].
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).
إن كانت آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نزلت يوم حجّة الوداع بعد آية (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) بنحو العامين ، كما قال الضحّاك ، كانت جملة مستقلّة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبي صلىاللهعليهوسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين ، اعتقادا وتشريعا ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معا يوم الحجّ الأكبر ، عام حجّة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين. وفي كلام ابن عطيّة أنّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب ، وذلك هو الراجح الذي عوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليوم