ذلك كلّه فلا يقضي فيها طبع فريق على فريق. والمحرّمات فيها من الطعوم ما يضرّ تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدّرات كالأفيون والحشيشة المخدّرة ، وما هو نجس الذات بحكم الشرع ، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيوب وأرواث النعام ، وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطا للتحريم إلّا المحرّمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله. والقول بأنّ بعضها حلال دون بعض بدون نصّ ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل ، فما الذي سوّغ الظبي وحرّم الأرنب ، وما الذي سوّغ السمكة وحرّم حيّة البحر ، وما الذي سوّغ الجمل وحرّم الفرس ، وما الذي سوّغ الضبّ والقنفذ وحرّم السلحفاة ، وما الذي أحلّ الجراد وحرّم الحلزون ، إلّا أن يكون له نصّ صحيح ، أو نظر رجيح ، وما سوى ذلك فهو ريح. وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردّد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نصّ فيه أو في مواقع المتشابهات.
(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).
يجوز أن يكون عطفا على (الطَّيِّباتُ) عطف المفرد ، على نيّة مضاف محذوف ، والتقدير : وصيد ما علّمتم من الجوارح ، يدلّ عليه قوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ). فما موصولة وفاء (فَكُلُوا) للتفريع. ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة ، وتكون (ما) شرطية وجواب الشرط (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ).
وخصّ بالبيان من بين الطيّبات لأنّ طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد ، لا سيما صيد الجوارح ، وهو محلّ التنبيه هنا الخاصّ بصيد الجوارح. وسيذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) [المائدة : ٩٤] والمعنى : وما أمسك عليكم ما علّمتم بقرينة قوله بعد (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلّمة.
والجوارح : جمع الجارح ، أو الجارحة ، جرى على صيغة جمع فاعلة ، لأنّ الدوابّ مراعى فيها تأنيث جمعها ، كما قالت العرب للسباع : الكواسب ، قال لبيد :
غبس كواسب ما يمنّ طعامها
ولذلك تجمع جمع التأنيث ، كما سيأتي (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).