الشجاعة ، فيكون «من» في قوله : (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) اتّصالية وهي الّتي في نحو قولهم: لست منك ولست منّي ، أي ينتسبون إلى الذين يخافون. وليس المعنى أنّهم متّصفون بالخوف بقرينة أنّهم حرّضوا قومهم على غزو العدوّ ، وعليه يكون قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أنّ الله أنعم عليهما بالشجاعة ، فحذف متعلّق فعل «أنعم» اكتفاء بدلالة السياق عليه. ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوف من الله تعالى ، أي كان قولهما لقومها «ادخلوا عليهم الباب» ناشئا عن خوفهما الله تعالى ، فيكون تعريضا بأنّ الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى ، ويكون قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) استئنافا بيانيا لبيان منشأ خوفهما الله تعالى ، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما. وهذا يقتضي أنّ الشجاعة في نصر الدّين نعمة من الله على صاحبها.
ومعنى (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة.
و (الْبابَ) يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدّسة ، أي المسالك الّتي يسلك منها إلى أرض كنعان ، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعرين ، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ، فأرادا : فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم. وقد يسمّى الثغر البحري بابا أيضا ، مثل باب المندب ، وسمّوا موضعا بجهة بخاري الباب. وحمل المفسّرون الباب على المشهور المتعارف ، وهو باب البلد الذي في سوره ، فقالوا : أرادا باب قريتهم ، أي لأنّ فتح مدينة الأرض يعدّ ملكا لجميع تلك الأرض. والظاهر أن هذه القرية هي (أريحا) أو (قادش) حاضرة العمالقة يومئذ ، وهي المذكورة في سورة البقرة. والباب بهذا المعنى هو دفّة عظيمة متّخذة من ألواح توصل بجزأي جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادّا لتلك الفرجة متى أريد سدّها وبأن تفتح عند إرادة فتحها ؛ فيسمّى السّد به غلقا وإزالة السدّ فتحا.
وبعد أن أمرا القوم باتّخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكّل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله ، ولذلك ذيّلا بقولهما : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، لأنّ الشكّ في صدق الرسول مبطل للإيمان. وإنّما خاطبوا موسى عقب موعظة الرجلين لهم ، رجوعا إلى إبايتهم الأولى الّتي شافهوا بها موسى إذ قالوا : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) ، أو لقلّة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكّدوا الامتناع الثّاني من الدخول بعد المحاورة أشدّ توكيد دلّ على شدّته في العربيّة بثلاث مؤكدات : (إنّ) ، و (لن) ، وكلمة (أبدا).