همزته لاعتبار تركيبه من (أنّ) المفتوحة الهمزة السّاكنة النّون مصدريّة أو تفسيرية ، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من (إنّ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وأصله و (أن إنّ) فلمّا ركّبا تداخلت حروفهما ، كما قال بعض النّحويين : إن أصل (لن) (لا أن).
وهذا بيان أنّ قتل النّفس بغير حقّ جرم فظيع ، كفظاعة قتل النّاس كلّهم. والمقصود التّوطئة لمشروعيّة القصاص المصرّح به في الآية الآتية (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] الآية.
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم ، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطمينا لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيت مصالحها ، كمشروعية القصاص ، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوى منه حتّى دعا ذلك الاشتباه بعض الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذنب آخر ، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المجازاة بالقتل ؛ لأنّ النفوس جبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القوّة الغضبيّة ، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع ، وإذا طمع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة ، ثمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه. وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم ، قال قائلهم ، وهو قيس بن زهير العبسي :
شفيت النفس من حمل بن بدر |
|
وسيفي من حذيفة قد شفاني |
ولذلك قال الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩].
ومعنى التشبيه في قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائه أو الستر عليه ، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض ، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس. فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعا ، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس. على أنّ فيه معنى نفسانيا جليلا ، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني النّاشئ عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نظم العالم ، فالّذي كان من حيلته ترجيح ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوما إلى هضم الحقوق ، فكلّما سنحت له الفرصة