ونحن نزيد على ذلك أنه ربما كان في نيّة الغزي أن يؤلف جزءا خامسا يشتمل على الباب الرابع من الكتاب ، بحسب تقسيمه هو لأبواب كتابه.
ومهما يكن من أمر فقد بذلت مساع كثيرة للحصول على الجزء الرابع المفقود أو للعثور عليه ، ولكن تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح ، وتبددت الآمال المنشودة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الغزي قد اعتمد في تأليف كتابه على مصادر كثيرة ، مطبوعة ومخطوطة. في التاريخ والاجتماع ، والأدب واللغة ، ذكر بعضها في مواضع من كتابه ، وأغفل بعضها الآخر. ويعد كتابه «نهر الذهب» ـ إلى جانب كونه في تاريخ حلب ـ موسوعة ثقافية واجتماعية وعمرانية تتلاقى فيها صور الماضي الغابر بالحاضر الراهن في زمن الغزي ، وكثيرا ما كان يستطرد إلى ذكر موضوعات جانبية مفيدة في أثناء تناوله لبعض الظواهر ، كحديثه عن التصوير في الإسلام ، وعن قهوة البنّ واكتشاف حبّه أول مرة ...
وقد أنفق الغزي في سبيل جمع كتابه. وتأليفه سنوات طويلة من عمره ، فقال في مقدمته : «وبعد ، فإني منذ زمن بعيد أعاني جمع هذا الكتاب ، وأصرف على تأليفه من نقد عمري وجوهر مالي ما يستكثر مثله من أمثالي. وقد تتبعت من أجله العدد الكثير من الكتب التاريخية وغيرها ، وتصفحت زهاء مائة مجلّد من السجلات المحفوظة في المحكمة الشرعية ، وتكبدّت عناء زائدا في الاطلاع على دفاتر الدوائر الرسمية ، وعلى ما هو مدّخر في المكتبات الخيرية والأهلية من المجاميع والرّقاع .. وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار أضطرّ في بعضها إلى تحمل مشاقّ الأسفار ، لأتمكن من الاطلاع على حقيقة حالها ، وأكتب عنها كتابة تحقيق ، لا كتابة تقليد وتلفيق».
يقول الدكتور سامي الدهان (١) : «والواقع أن الذي يميز هذا الكتاب من سواه ، أن صاحبه أعمل فيه الرويّة والعقل ، والنقد والتمحيص ، والتثبت والتبويب ، أكثر مما يعمل النقل والتقليد والرواية على علاتها ، فكان تاريخا على الطريقة الحديثة سبق به زمانه ، وكفى المؤلفين بعد زمانه مؤونة التأليف في مثله ، فقد نظر في المصادر العربية القديمة ، واستطاع أن يعرف ما في المصادر الأجنبية عن سبيل أصدقائه من الفرنجة المقيمين بحلب ، أو المسيحيين المطّلعين على
__________________
(١) قدماء ومعاصرون ٢٢٧ ـ ٢٢٨.