وقال ابن بطلان في بعض رسائله : وخرجنا من حلب لأنطاكية وبينهما يوم وليلة مسافة عامرة لا خراب فيها أصلا وهي أراض تزرع حنطة وشعيرا تحت شجر الزيتون. قراها متصلة ورياضها مزهرة ومياهها متفجرة يقطعها المسافر بال رخي وأمن وسكون. ولأنطاكية سور وفصيل وللسور ٣٦٠ برجا يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك يضمنون حراسة البلدة سنة ويستبدل بهم.
وشكل البلدة كنصف دائرة قطرها يتصل بالجبل والسور يصعد من الجبل إلى قلّته فتتم دائرة. وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها عن البلد صغيرة. وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية. وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب وفي وسطها بيعة القسيان ، وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده بطرس رئيس الحواريين وهو هيكل طوله ١٠٠ خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين. وكان يدور على الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة (١) ومتعلمو النحو واللغة. وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان للساعات يعمل ليلا ونهارا دائما اثنتي عشرة ساعة وهو من عجائب الدنيا وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومناظر حسنة تخرج منها المياه. وعلة ذلك أن الماء ينزل عليها من الجبل المطل على المدينة وهناك من الكنائس ما لا يحدّ ، كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزّع (٢).
وفي البلد بيمارستان يراعي البطريك المرضى فيه بنفسه ويدخل المجذومين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم بيده ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة. ويعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع. وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذة وطيبة لأن وقودها الآس ومياهها تسعى سيحا بلا كلفة. وفي بيعة القسيان من الخدم المسترزقة ما لا يحصى ولها ديوان لدخل الكنيسة وخرجها فيه بضعة عشر كاتبا.
وبين أنطاكية والبحر نحو فرسخين ولها مرسى في بليد يقال له السويدية ترسي (٣) فيه مراكب الفرنج ويرفعون أمتعتهم إلى أنطاكية على الدواب وكان الرشيد العباسي قد دخل
__________________
(١) أي لإصدار الأحكام والفصل في القضايا المعروضة.
(٢) المجزّع : ما اجتمع فيه سواد وبياض على شكل عروق.
(٣) الصواب «ترسو» وماضيه «رسا».