والتوت والدلب والصفصاف. والغرض من ذلك كسر سورة الهواء وتنقيته وجذب ما ينبث فيه من الغبار وقاية لبقية الطوائف. ثم ترى أمام هذا السياج صفا من فصيلة الورد ، ثم تراه مقسما لعدة حقول ، في كل حقل منها نوع من الشجر والنبات ، قد رتب على نسق جميل لا يمنع غراسه الشمس والهواء عن غراس بقية الحقول مفروشة أرض الحقل الشجري منها بالبنفسج ، إذا بقيت فيه عامة نهارك لا تراك الشمس ولا تصدك كثرة الريح ولا تضرك قلته. ومن خصائص تربة حلب العنب والتين والبطيخ بنوعيه. وسنتكلم على هذه الأنواع في الفصل الذي تكلمنا فيه على نباتات حلب. وبالحقيقة أن جميع فواكه حلب وبقولها وخضرها في منتهى طبقات الجودة سوى قليل منها.
وأما جمال أبنائها فكثيرا ما سمعت من بعض أولي الأنظار النقادة من السّواح (١) والأغراب وسكان القسطنطينية أن جمال حلب أكثر من جمال الروم المشهورة بالجمال. وقال الدكتور فنديك في كتابه المرآة الوضية في الكرة الأرضية : إن أهل حلب أجمل من جميع سكان البلاد العربية. وترى النساء مع هذه المحاسن البديعة على غاية من العفة والأدب والصيانة والطاعة لأزواجهن ، والرضاء باليسير والقناعة بمعايشهن والقيام بخدمة أزواجهن وأولادهن ومنزلهن. ولذلك ربما مضى الشهر ولم يرفع للمحكمة الشرعية دعوى بالطلاق ، ومع قلته فإنه لا يصدر إلا من رعاع الناس وغوغائهم. وأما مكارم أخلاق رجالها فحسبك دليلا عليها ما اشتهر عنهم من الميل إلى الغريب والولع بأولي الفضائل.
ومن مزاياهم الحسنة تودّد أهل الملل الثلاث إلى بعضهم ، وتبادلهم الصداقة والمحبة وحسن التعامل والمعاشرة مع التزام الحشمة والأدب ، وتناصرهم في الغربة ومزيد ألفتهم وحنينهم إلى بعضهم ، غير ناظرين إلى اختلاف مللهم ومذاهبهم ، وهم في إنفاق المال على أهلهم في حالة متوسطة بين الإسراف والتقتير بحكم آية (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ). أما إنفاقهم في الولائم والصدقات فلربما اصطنع أحدهم وليمة دعا إليها عشرة أشخاص مثلا لكنه هيأ من الطعام ما يقوم بكفاية مائة شخص. وهم أهل تدبير في معائشهم يحتكر الرجل منهم مؤونة عامه في بيته. فيرفع كل نوع منها في وقته المعين ، فلا يبقى محتاجا إلا إلى اللحم الغريض (٢) والخضرة والفاكهة الغضّة.
__________________
(١) الصواب «السّيّاح» جمع سائح ، وفعله يائي العين : ساح يسيح.
(٢) أي الطري ، الجديد «الطازج».