ضلال (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (١).
من هنا كان وجه من وجوه عظمة القرآن ، هو : أن يجمع بين البيان والإعجاز ، فلا تكون الآية الدالة على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم منفصلة عن البيان كما كان ذلك فى رسالة موسى وعيسى ، إذ كانت آيات موسى التسع ، وإحياء المسيح للموتى شيئا منفصلا تماما عن صلب التوراة والإنجيل .. أما القرآن فلمّا كان مصدقا للتوراة والإنجيل ومهيمنا عليهما ، وجامعا لحقائقهما ، فقد اجتمع فى صلبه البلاغ المبين ، والإعجاز القائم مدى الدهر ، وما ذاك إلّا لأنه كتاب لم ينزل لهداية العرب خاصة ، وإنما نزل لهداية البشرية كلها فى عصر الرسول صلىاللهعليهوسلم وبعد عصره وإلى أن تقوم الساعة ، فلو انفصلت آية صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم عن نفس القرآن كما حدث فى الرسالات السابقة ، فمن الذى كان يأتى الناس بهذه الآية التى هى المعجزة بمعناها الاصطلاحى الآن؟
يعنى : أنه إذا ارتاب قوم فى صدق النبى صلىاللهعليهوسلم فى عصرنا الحاضر ، فمن أين نأتى بالرسول صلىاللهعليهوسلم ليطالبوه بمعجزة مادية تدل على صدقه؟ ولهذا كان القرآن نفسه بيانا ومعجزة فى آن واحد ، ولم تكن مادة إعجازه شيئا واحدا بحيث لا تلائم إلّا عصرا واحدا أو مجموعة من الأجيال بعينها ، بل كانت مواد إعجازه كامنة فى أطوائه ، وكلما تقدم المنكرون الجاحدون فى العلم المادى انكشف من وجوه إعجازه وجه يقمع ضلالات الكفر ، ويهدى إليه الآلاف المؤلفة فى كل عصر ، وهو ما نشهده الآن وقبل الآن ، وما ستشهده الأجيال بعد الآن بإذن الله.
وقد أشار الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى هذا المعنى فى حديث أخرجه البخارى عنه قال : «ما من الأنبياء نبى إلّا أعطى ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا». قالوا فى معناه : إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلم
__________________
(١) سورة البقرة : ٢٦.