والدعوة صنفان : دعاء المضطر ، ودعاء المظلوم وهي مستجابة من الناس لا محالة ، مؤمنا كان أو كافرا ، لأن الله تعالى يقول : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [٦٢] ، كقوله : (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [٦٤] ودعاء المظلوم يرفع فوق الحجاب ، ويقول الله تعالى : «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين».
قوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [٦٥] قال : أخفى غيبه عن المخلوقين بجبروته ، ولم يطلع عليه أحدا ، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره ، فلا يعلم أحد ما سبق له منه ، فيكون همهم في إبهام العواقب ومجاري السوابق ، لئلا يدعو ما لا يليق بهم من أنواع الدعاوي في المحبة والمعرفة وغير ذلك. قال : كان مائة ألف صديق ظاهرين للخلق ، حتى كان لا يسمع أصوات الميازيب ببيت المقدس من المجتهدين بالميل ، فلما ظهر شيئان ، سألوا الله تعالى فأماتهم دعوى الحب ودعوى التوكل. فقيل له في القول قول الحارث (١) حيث قال : سهرت ليلي وأظمأت نهاري (٢). فقال : يعني لا حاجة لي إلى الكشف ، لأنه حظ الكفار في الدنيا ، فأنا لا أشاركهم في حظهم ، فلذلك قلت : أنا مؤمن. قيل له : قوم يقولون مثل ما قال الحارث ، فقال : دعواهم باطلة ، وكيف تصح لهم الدعوى ، ولم يدع ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكانت شعرة في صدرهما أفضل من الحارث ، وإنما قال ذلك الحارث رضي الله عنه لا بنفسه ، وإنما أظهر الله ذلك فتنة لمن بعده من المدعين ، فكيف يصح لهؤلاء أن يدعوا ذلك لأنفسهم. قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [٧٣] قال : منعه فضل ، كما أن عطاءه فضل ، ولكن لا يعرف مواضع فضله في المنع إلا خواص الأولياء.
قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) [٨٨] قال : إنّ الله تعالى نبه عباده على تقضي الأوقات وغفلتهم فيها ، فجعل الجبال مثلا للدنيا ، يظن الناظر أنها واقفة معه وهي آخذة بحظها منه ، ولا يبقى بعد الانقضاء إلا الحسرة على الفائت الناظر أنها واقفة معه ، وهي آخذة.
__________________
(١) الحارث بن مالك بن قيس الليثي ، المعروف بابن البرصاء : صحابي. روى عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعنه الشعبي وعبيد بن جريج. (تهذيب التهذيب ٢ / ١٣٥).
(٢) في مصنف ابن أبي شيبة ٦ / ١٧٠ ، رقم ٣٠٤٢٥ : (عن زبيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا. قال : إن لكل قول حقيقة ، فما حقيقة ذلك؟ قال : أصبحت عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي قد أبرز للحساب ...).