وأن الله عزوجل فرغ من علم عباده وما يعملون قبل أن خلقهم ، ولم يجبرهم على المعصية ، ولا أكرههم على الطاعة ، ولا أهملهم من تدبيره ، بل نبه على ما تواعد به من كذب بقدره فقال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] على وجه التهدد ، إذ لا حول لهم ولا قوة إلّا بما سبق علمه فيهم أنه سيكون منه بهم ، ولهم قال الله تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) [الرعد : ١١] فالخير من الله تعالى أمر ، وإليه الولاية فيه ، والشر من الله نهي ، وإليه العصمة فيه.
قال سهل رضي الله عنه : وما من آية في القرآن إلّا ولها أربعة معان ، ظاهر وباطن وحدّ ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد حلالها وحرامها ، والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقها من الله عزوجل. فالعلم الظاهر علم عام ، والفهم لباطنه ، والمراد به خاص ، قال تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨] أي لا يفقهون خطابا. قال سهل : فلا بد للعبد من مولاه ، ولا بد له من كتابه ، ولا بد له من نبيه صلىاللهعليهوسلم ، إذ قلبه معدن توحيده ، وصدره نور من جوهره أخذ قواه من معدنه إلى هيكله ، فمن لم يكن عنده شيء يتبع به أو أضرب عنه كذلك لم تكن الجنة منزلا له ، وإذا لم يكن الله معه وناصره فمن معه ، وإذا لم يكن القرآن إمامه ، ولم يكن النبي صلىاللهعليهوسلم له شافعا من يشفع له ، وإذا لم يكن في الجنة فهو في النار.
وقوله : «صدره نور» أي موضع النور. «من جوهره» : وهو أصل محل النور في الصدر الذي منه ينتشر النور في جميع الصدر. وإضافة الجوهر إلى الله تعالى ليس المراد ذاته ، وإنما هي على طريق الملك. «أخذ قواه» : يعني قوى النور من معدنه ، وهو الصدر وما حل مصدق. «إلى هيكله» : يعني إلى جوارحه ، وإنما عنى بها نور الطاعات التي في الجوارح ، فمن لم يكن عنده شيء من الهداية سمع به ، أي فهم به.
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «القرآن شافع مشفّع وما حل مصدق ، فمن شفع له القرآن نجا ، ومن محل به هلك» (١). وقال سهل : إن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلىاللهعليهوسلم ، وجعل قلبه معدنا لتوحيده والقرآن ، فقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١) عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] وكلفه تبليغه والبيان عنه ليعلم المؤمنون به ما أنزل إليهم ، فمن آمن به وعلم تبيانه وعمل بحكمه كان كامل الإيمان لله تعالى ، ومن آمن به وقرأه ولم يعمل بعلم ما فيه لم يكمل أجره. والناس في قراءة القرآن على ثلاثة مقامات ؛ فقوم أعطوا الفهم بقيامهم بأداء الأمر واجتناب النهي من
__________________
(١) نوادر الأصول ٣ / ٢٦٠.