إلى مقام العيان بعد البيان انقطع وصرف وساوس الشيطان وسلطان النفس ، وصار كيدهم ضعيفا ، بيانه قوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] يعني صار عليهم ضعيفا كما قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] لأن العبد إذا جاوز بحسن ظنه جميع الحجب ، حتى لا يكون بينه وبين الله حجاب ، فليس للنفس والشيطان والدنيا دخول على قلبه وفؤاده بالوساوس ، ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «رأيت البارحة عجبا عبد بينه وبين الله حجاب فجاء حسن ظنه بالله فأدخله الحجاب» (١).
وقوله : «وحسن الظن جاوز نور نار» كأنه أشار إلى متابعة الرسول شرفا بتفضيله على الخليل والكليم ، لأن الأنبياء والأولياء في مقام رؤية النار والنور على مقامات شتى ، فالخليل رأى النار وصارت عليه بردا وسلاما ، والكليم رأى النار نورا بيانه قوله : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠] وكان في الأصل نورا مع قوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [النمل : ٨] يعني موسى في وسط النور فاشتغل بالنور فعاتبه فقال : لا تشتغل بالنور فإني منور النور ، بيانه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] وأما الحبيب صلىاللهعليهوسلم فأراه النار والنور ، وجاوز حجاب النار والنور ، ثم أدناه بلا نار ولا نور ، حتى رأى في دنوه الأدنى منوّر الأنوار ، بيانه قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] فرفع الحبيب عن مقام الخليل والكليم ومقامات جميع الأنبياء المقربين ، حتى صار مكلما بالله بلا وحي ولا ترجمان أحد ، بيانه قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] يعني قال الحبيب للحبيب سرا وعلمه وأكرمه بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
وقوله : «علامات المقرب واضحات» أراد أن جميع الأنبياء والملائكة لهم قربة ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم أقربهم قربة ، على وزن أفعل ، يقول قريب وأقرب ، فالقريب يدخل في الفهم والوهم والتفسير ، وأما الأقرب خارج عن الفهم والوهم والتفسير ، وما بعده لا يدخل في العبارة ولا في الإشارة ، وذلك أن موسى عليهالسلام لما سمع ليلة النار نداء الوحدانية من الحق فقال : إلهي أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك (٢)؟ فنادى الكليم من مكان القريب والبعيد أنه قريب. ولم يكن هذا في وصف الرسول حينئذ صيره مقربا ، حتى سلّم الله عليه فقال : السلام عليكم ، وإن الله تعالى مدح أمته فقال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ـ ١١] ولم يقل القريبون ، وعلامات المقرب واضحات من هذه الأمة ، فالقريب وجد من الله المنة والكرامة ، والبعيد وجد من الله العذاب والعقوبة ، والمعبد وجد من الله الحجاب والقطيعة ، والمقرب وجد من الله اللقاء والزيارة.
__________________
(١) نوادر الأصول ٣ / ٢٣١ ؛ والعلل المتناهية ٢ / ٦٩٩ (رقم ١١٦٥).
(٢) كشف الخفاء ١ / ٢٣٢ ؛ وحلية الأولياء ٦ / ٣٧ ، ٤٢ ؛ وشعب الإيمان ١ / ٤٥١.