يحدث بنفسه من غير
شيء لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ، فإن الممكن لا وجود له ولا عدم
من ذاته ، فإذا وجد لم يكن وجوده من ذاته بل بسبب خارج عنه يرجح وجوده على عدمه إذ
لو وجد بنفسه لكان واجب الوجود ، وهذا خلاف الغرض ، وإذا ثبت أن الكون كله ينتهي
في وجوده إلى واجب الوجود لذاته وهو الرب جل شأنه ، فليس في ثبوت أوصاف الكمال
لذاته ما يقتضي بطلان هذا البرهان القطعي ، بل بالعكس تشهد الموجودات جميعها بأن
باريها وفاطرها سبحانه متصف بكل كمال يمكن أن يتصف به إذ لو خلا من ذلك لم يكن
واجب الوجود بل كان ممكنا محتاجا مثلها. وكذاك تشهد له بدوام القهر والتدبير والعزة
والسلطان ، وبأنه العلي فوق جميع خلقه إذ لا يجوز أن يحصره ولا يحيط به شيء منها
فإن الحادث لا يجوز أن يكون محلا للقديم لأن ذلك يقتضي حدوثه وجميع ما سوى الله
تعالى حادث فلا يجوز أن يكون ظرفا حاويا له وأما ما فوق العرش فإنه خلاء صرف وعدم
محض فإذا قيل أن الله عزوجل هناك ، كما أخبر عن نفسه فليس في هذا ما يقتضي انحصاره في
شيء من خلقه إذ العدم لا يكون مخلوقا. وكذلك تشهد الكائنات بأنه هو وحده المعبود
بحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، فإن العبادة إنما يستحقها من كان ربا خالقا
ومالكا مدبرا ، وليس ذلك إلا لله جل شأنه ولهذا يعيب القرآن على المشركين أنهم مع
إقرارهم بانفراده سبحانه بالربوبية وشئونها والخلق والرزق والملك والتدبير يعبدون
معه غيره ويجعلون له أندادا من خلقه.
وكذاك تشهد له
بكمال الحكمة والاتقان بما اشتملت عليه من غايات ومقاصد تتجلى في جميع ما خلق وفي
كل ما أمر به. وتشهد له بتمام القدرة التي لا تعجز عن شيء من الممكنات إيتاؤه
وبدوام البر والإحسان إلى خلقه ، وبدوام الفعل فهو سبحانه لم يزل ولا يزال فعالا ،
كما قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ) [البروج : ١٦]
وكما قال : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ١٩] فما
دام حيا فهو فعال إذ الفعل لازم الحياة ، وتشهد له بأنه المختار في فعله فلا يصدر
عنه الفعل عن قهر ولا إكراه ، ولا يفيض عنه من غير قصد ولا اختيار كما