وذكر القاضي شمس الدّين ابن خلّكان (١) ، قال : كان الأدفونش بن فرذلند ملك الفرنج بالأندلس قد قوي أمره ، وكانت ملوك الطّوائف من المسلمين بجزيرة الأندلس يصالحونه ، ويؤدّون إليه ضريبة ، ثمّ إنّه أخذ طليطلة في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعد حصار شديد ، وكانت للقادر بالله بن ذي النّون. وكان المعتمد مع كونه أكبر ملوك الجزيرة يؤدّي الضّريبة للأدفونش ، فلمّا ملك الكلب طليطلة قويت نفسه ، ولم يقبل ضريبة المعتمد ، وأرسل إليه يتهدّده ويقول : تنزل عن الحصون الّتي بيدك ، ويكون لك السّهل.
فضرب المعتمد الرسول ، وقتل من كان معه. فبلغ الأدفونش الخبر وهو متوجّه لحصار قرطبة ، فرجع إلى طليطلة لأخذ آلات الحصار ، فأتى المشايخ والعلماء إلى أبي عبد الله محمد بن أدهم ، وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين ، فاجتمع رأيهم أن يكتبوا إلى الأمير أبي يعقوب يوسف بن تاشفين صاحب مرّاكش ، يستنجدونه ليعدّي بجيوشه إلى الأندلس ، وينجد الإسلام. واجتمع القاضي بالمعتمد على الله ، وأعلمه بما جرى فقال : مصلحة (٢).
__________________
(١) في وفيات الأعيان ٥ / ٢٧.
(٢) قال الحميري : إن الأدفونش نزل قبالة قصر ابن عبّاد ، وفي أيام مقامه هناك كتب إلى ابن عبّاد زاريا عليه : كثر بطول مقامي في مجلسي الذبّان ، واشتدّ عليّ الحرّ ، فأتحفني من قصرك بمروحة أروّح بها عن نفسي وأطرد بها الذباب عني ، فوقّع له ابن عبّاد بخط يده في ظهر الرقعة : قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك ، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية في أيدي الجيوش المرابطية تريح منك لا تروّح عليك إن شاء الله. فلما ترجم لابن فرذلند توقيع ابن عبّاد في الجواب أطرق إطراق من لم يخطر به ذلك ، وفشا في بلاد الأندلس خبر توقيع ابن عبّاد وما أظهر من العزيمة على إجازة الصحراويين والاستظهار بهم على ابن فرذلند ، فاستبشر الناس ، وفتحت لهم أبواب الآمال.
وانفرد ابن عبّاد بتدبير ما عزم عليه من مداخلة يوسف بن تاشفين ، ورأت ملوك الطوائف بالأندلس ما عزم عليه من ذلك ، فمنهم من كتب إليه ومنهم من شافهه ، كلهم يحذّره سوء عاقبة ذلك ، وقالوا له : الملك عقيم ، والسيفان لا يجتمعان في غمد ، فأجابهم ابن عبّاد بكلمته السائرة مثلا : رعي الجمال خير من رعي الخنازير ، أي أن كونه مأكولا لابن تاشفين أسيرا يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزّقا لابن فرذلند أسيرا يرعى خنازيره في قشتالة ، وكان مشهورا بوثاقة الاعتقاد. وقال لعذّاله ولوّامه : يا قوم أنا من أمري على حالين : حالة يقين وحالة شك ، ولا بدّ لي من إحداهما ، أما حالة الشك فإنّي إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ابن فرذلند ففي الممكن أن يفي لي ويفي عليّ ويمكن ألّا يفعل ، فهذه حالة شك ، وأما حالة اليقين فهي أني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله ، وإن استندت إلى ابن فرذلند=