قلت : سنبيّن في آخر الكلام أنّ كون الفعل قربة ، أعمُّ من كونه مأموراً به. ونبدأ أوّلاً بالكلام على كون هذا السفر مأموراً به أمرَ ندبٍ :
فنقول : ما لا يتمّ المأمور به إلّا به ينقسم إلى شرط في وجوده ، وإلى ما هو تابع يشترط للعلم بوجوده ، كغسل جزء من الرأس للعلم بغسل الوجه ، والخلاف في القسم الثاني قويّ ، وليس ممّا نحن فيه.
وأمّا القسم الأول ـ وهو ما كان شرطاً أو سبباً لوجود المأمور به ، كالذي نحن فيه ، ونعبّر عنه ب «المقدّمة» ـ فالجمهور على أنّه مأمور به واجب ؛ لوجوب المقصد ، وخالف في ذلك فريقان من الاصوليّين :
فرقة خالفوا في الشرط ، ولم يخالفوا في السبب.
وفرقة خالفوا في الشرط والسبب جميعاً ، وربّما نقل الخلاف في ذلك عن الواقفيّة ؛ وأنّهم لم يجزموا في ذلك بشيء ، بل توقّفوا على عادتهم ، وربّما نقل الجزم بعدم الوجوب.
وكلا القولين :
إن اخذ بالنسبة إلى دلالة اللفظ ؛ وأنّ دلالة لفظ الأمر بالمقصود قاصرة عن دلالته على الأمر بالمقدّمة ، فيسهل الأمر فيه ، ولا يمنع عدم دلالة غيره ، ولا ينفي ذلك كون مقدّمة المأمور به مأموراً بها لدليل عقليّ.
وإن اخذ بالنسبة إلى أنّه إذا ترك يعاقب على ترك المقصد خاصّة ، ولا يعاقب على ترك المقدّمة ، فقريب أيضاً ، ولكنّه إنّما ينفي (١) الوجوب لا الندب ، وكلامنا في الندب.
وإن اخذ بالنسبة إلى أنّ المشروط الذي ورد الأمر به مطلقاً ، لا يجب إلّا عند وجود شرطه ، كما صرّح به بعض متأخّري الاصوليّين ، فهذا قول باطل لم يتحقّق القول به عن أحد من الأئمة المعتمد على كلامهم ، وقواعد الشريعة تقطع ببطلانه ، ولا شكّ أنّ الأئمّة المعتبرين الذين هم أئمّة الفتيا على خلافه.
__________________
(١) هذا هو الصواب ، وفي النسخ : «يبقى» فلاحظ.