فافهم ، مثل هذه الأحاديث كثيرة وههنا غاية مقاصدنا تفسير قوله سبحانه : (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) ، وربّ روضة في الدنيا للعارف الصادق العاشق بالله يرى الحق فيها ويسمع من الحق السماع بغير واسطة ، وربما يكون بواسطة ، فيسمعه الحق من ألسنة كل ذرة من العرش إلى الثرى أصواتا قدوسية وخطابات سبوحية.
قال جعفر : بالله فابدأ في صباحك ، وبه فاختم في مساءك ، فمن كان به ابتداؤه وإليه انتهاؤه فلا يشقى فيما بينهما.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))
قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) : الدين طريق القدم ، والحنيفية التبرؤ من الكون ، وإقامة الوجه الإعراض عن الكل والإقبال بعد فناء النفس والكل على الأزل ، فهذه بمجموعها فطرة الحق التي فطر الخلق بتلك الفطرة ، ولا يبتدأ هذه الفطرة من حالها ؛ فإنها طرق القدم في مكمن العدم ، وإذا استقام في السير من العدم إلى القدم وكمل من الحقائق بحيث لا يعوج عن الإقبال على الحق بشيء من الحدوثية ، فمحض ذلك الانفراد مع الوصول أصل الدين ؛ لذلك قال : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، خاطب الحق حبيبه في بداية تخلصه من نفسه ، ومن الكون بعد إقبال الحق عليه أن يستقيم بنعت التجريد في توحيده ، ومسيره إلى جلاله في طريق محبته وعبوديته.
قال أبو علي الجوزجاني : دعا الله عباده إلى الإخلاص من كل وجه ، وأخبر أن من كان في ظاهره وباطنه شيء سوى الحق لم يكن مخلصا في قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي : معرضا عن الكل ، مقبلا عليه أي : مطهّرا عن الأكوان وما فيها.
قال ابن عطاء : الفطرة ما فطرهم عليه وثبّتها في اللوح المحفوظ.
وقال : الدين القيم الطريق الواضح لأهل الحقائق.
(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ