الغيوب ومضمرات القلوب وحركات الأرواح وعلل الأشباح ، يعز العارفين بعزته ، ويشوق المحبين إلى جمال مشاهدته بمحبته الأزلية التي سبقت في الأزل لأهل خالصته ، أنزل هذا التنزيل إلى سيد المرسلين ، وإمام العالمين ليبشر بنزوله أهل نزل مواهبه السنية ، ومعارفه المقدسة ، وليفرح فؤاد المهتمين على ما جرى عليهم خطرات الامتحان ، وهواجس النفس ، والشيطان بقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) يستر ذنوب المذنبين بحيث يرفع عن أبصارهم حتى ينسوها ويقبل عذرهم حين افتقروا إليه بنعت الاعتذار بين يدي ربه.
(شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن لا يرجع إلى المآب بأن عذبه بذل الحجاب.
(ذِي الطَّوْلِ) لمن أفنى نفسه لنفسه ، وطوله طول كشف جماله في أوقات الواردات والمواجيد ، من خصه بالقرب والجمال ، ثم وصف نفسه بالتنزيه والتقديس ، ونفى الأنداد والأضداد في ربوبيته وغفران عباده ، وتعذيب عصاته بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) إليه يرجع كل مشتاق ، وكل عارف محب عاشق ، يقبل منهم عذرهم في تقصيرهم في العبودية ، وقلة عرفانهم حقوق الربوبية ، هو مصدر الكل ، ومصير الكل مصادر القدم ومعادنهم ، لا العدم ، فإن العدم لا شيء في شيء ، وهو موجد الأشياء بلا علل ولا حيل ، ثم من غيرته يعدم الكل حتى لا يبقى في ساحة الكبرياء أهل الفناء ، قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].
قال سهل في قوله : (حم) : الحي الملك ، وفي قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : هو الذي أنزل عليك الكتاب ، وهو الله الذي ولهت به قلوب العارفين ، والعزيز من درك الخلق العليم بما أنشأ وقدر ، (غافِرِ الذَّنْبِ) : أي : ساتره على من يشاء ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) : أي : ممن تاب إليه ، وأخلص العمل بالعلم له ، (ذِي الطَّوْلِ) : ذي الغنى من الكل.
قال بعضهم : (غافِرِ الذَّنْبِ) : كرما ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) : فضلا ، (شَدِيدِ الْعِقابِ) : عدلا ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : فردا ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : تصديقا للوعد.
قال بعضهم : غافرا لذنب المذنبين ، وقابلا توبة الراجعين ، شديد العقاب على المخالفين ، ذي الطول على العارفين.
قال الأستاذ : غافر الذنب لمن أصر وأجرم ، وقابل التوب لمن أقر وندم ، وشديد العقاب لمن جحد وعند ، وذي الطول لمن عرف ووحد.
قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ما يخاصم في هذه الإشارات التي رمز الحق فيها من غوامض علومه الإلهية إلا أهل التقليد من المنكرين.