بتلك الأرواح من حيث الوحي والرسالة والإلهام والحديث والكلام والكشف والعيان ليخوفوا العباد من المشهد العظيم ، وبروز سطوات عظمة العظيم يوم المشاهدة ويوم المكاشفة ويوم المخاطبة حيث يلقى المحب المحبوب ، والعاشق المعشوق ، والعبد الرب ، والعارف المعروف ، والموحد الموحد ، تعالى بقوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) أي : يوم كشف اللقاء.
ثم وصف ذلك اليوم بقوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي : يوم بروزهم في ميادين ملكوته ، وصحارى جبروته ، بارزون على مراكب النور في ميادين السرور ، لو رأيت يا حبيبي هنالك زفرات الوالهين ، وعبرات الشائقين ، وشهقات المشتاقين ، وغلبات المحبين ، وعربدة العاشقين ، وانبساط الصديقين ، وسكر العارفين ، ووله الموحدين ، وذلك عند كشف نقابه وظهور جمال وجهه تعالى ، وهو يعلم أسرار الجميع لا يخفى عليه أحوالهم وأسرارهم ، قال الله سبحانه : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ، محيط بضمائرهم ، ويعلم مراداتهم ، فلما تمكنوا يرفع عن أبصارهم جميع الحجب ، ويريهم سبحات جمال القيومية ، فيفنى فيها الأولون والآخرون ، فلما سكنت الأرواح ، وهدأت الأصوات ، ولا يبقى إلا حي قيوم قديم ، يقول بعزته : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) أي : أين المدعون في المعارف والتوحيد والمبارزة بالعربدة والانبساط في مقام المحبة؟ لمن البقاء السرمدي؟ ولمن الجلال الأزلي؟ ولمن الكبرياء القدمي؟ أين أصحاب الأنائية؟ فأخرس الكل ، وأفنى الكل ، فيجيب نفسه إذ يستحق بجواب خطابه إلا هو ؛ فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) الواحد في وحدانيته ، القهار في فردانيته ، ثبت نسبة الوحدانية إذ الكل مبهوتون في غشاوة التفرقة ، القهار من حيث قهر الجمهور ، ولا يبقى عند سطوات عظمته أحد من خلقه ، فلما أوجدهم من صعقات الفناء ؛ يجازي الكل على قدر مقاماته ، يجازي الزاهدين بالجنة ، ويجازي العابدين بالدرجة ، ويجازي المحبين بالمشاهدة ، ويجازي المشتاقين بالمكاشفة ، ويجازي العارفين بالوصلة ، ويجازي الموحدين بمطالعة سر الأولية والآخرية ، قال الله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي : من هموم فراقه ، ومقاساة بلائه ، ودوام الحزن في عبوديته ، والكآبة في خدمته ، وانتظار الفرج من سجنه ؛ فهذه المقاساة عقوباته وبلاياه التي امتحنهم بها في الدنيا ، فيرفع الله بذلك عنهم أبد الآبدين ، ويفرغ على الجميع من بحار كرمه سيول الرحمة والإنعام ، ولا يبقى ذرة من بلائهم إلا وهو يجازيه بحسن صحبته ، وكشف نظارة وجهه ، تعالى الله عن التشبيه ، وقال الله تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) سرعة حسابه تعالى أن لو كان مثل ما خلق ألف ألف مرة ، وبكل ذرة منها عالم ، وفيه على قدر كل ذرة خلق ، وهم يعملون على أضعاف ما عملوا ، فيريهم جميع