موارد الهيبة.
قال الله تعالى : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا.)
قال النصرآبادي : هيبة المشاهدة إذا طالعت السرائر بحقائقها أخرست الألسن عن النطق في ذلك المشهد ، كالجن لما حضروا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأراد أن يقرأ عليهم أوصى بعضهم بعضا بالإنصات ، فلما حضروا قالوا أنصتوا.
وقال الواسطي : شاهدوا عز الربوبية ظاهرا في أوصاف البشرية أخرسهم المشهد لشدة الهيبة.
(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠))
قوله تعالى : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) : يرشد إلى مشاهدة الحق ، وإلى طريق معرفته بنعت الخروج عما دون الله ، القرآن صفة الحق ، وصفته تدل على ذاته ، ترشد ظواهره إلى بواطنه ، وبواطنه إلى مصادره الأزلية الأبدية.
(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤))
قوله تعالى : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) (١) : أخبر الله عن مقالة كبراء الجن وعلمائهم لمريديهم أي : سمعتم بآذان الأرواح والأسرار مناداة الأزل قبل الكون ،
__________________
(١) إنما اقتصر على مغفرة الذنوب ، والإجارة من العذاب ، وطوى ذكر إدخال الجنات ، والإثابة بالنعيم ؛ لأنه كقوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، وذلك لا يقتضي ألا يكون للجن نعيم ورؤية ، فإن أول الدعوة الإنذار للنجاة من النار ، ثم التبشير للفوز بالنعيم ، كما هو مقتضى الإيمان.
ودخل في النعيم الرؤية ؛ لأنها أعلى النعيم الإلهية ؛ ولذا ورد : «وأسألك لذّة النظر إلى وجهك الكريم». حيث أثبت اللذّة للنظر ؛ لأن الرؤية من اللذات المعنوية ، والنعم الروحانية ، فظهر من هذا أن المؤمنين من الجن ؛ كالمؤمنين من الإنس في الإجارة والإثابة ؛ لأن كلّا منهم داخلون تحت التكلّف والدعوة ، فمشاركتهم في ذلك تقتضي مشاركتهم في النعيم مطلقا.