مع عباده يردهم بين إفناء وإبقاء.
ثم منّ الله علينا براحة الليل وستره بقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) إذا هجم ظلال الليل على أهل شوقه هاج أسرارهم بنعت الشوق والأنس إلى قربه ووصاله ؛ فينكشف لهم أسرار الملك والملكوت ، وأنوار العزة والجبروت ، وهم يتقلبون فيها بأشكال غريبة ، وحركات عجيبة ، ومناجاة لطيفة ، ومواجيد عظيمة ، وعبرات عزيزة ، ولولا ستر الليل عليهم لفشا أحوالهم ، وانكشف أسرارهم عند الخلق ، فإذا كانوا في حالة اليقظة فحالهم الغلبات ، فإذا أنسوا بنور الجمال يأخذهم النوم ، ويقطعهم عن التهجد ، وبرجاء الوجد ، فيسكنون في روح الأنس وراحة القدس ، وربما يرون المقصود في نومهم كما حكي عن شاه بن شجاع أنه لم ينم ثلاثين سنة ، فاتفق أنه نام ليلة فرأى الحق سبحانه في منامه ، ثم بعد ذلك يأخذ الوسادة معه ، ويضطجع حيث كان ، فسئل عن ذلك فأنشأ يقول :
فأحببت التّنعس والمناما |
|
رأيت سرور قلبي في منامي |
يا فهم لهم في زمان الامتحان ليل الحجاب ، وسبات الغفلات ، فإذا ذابوا في مقام الفرقة أخذ الله أيديهم بكشف الوصال بقوله : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧) أطلع عليهم بعد ذلك شمس العناية من مشرق الكفاية ، نومهم سبب الزلفات ، وسباتهم راحة المداناة ، وهذا حال أهل النهايات.
لعل خيالا منك يلقى خياليا |
|
وإنّي لأستغشي ومابي نعسة |
قال الأستاذ : الليل وقت لسكون قوم ، ووقت لانزعاج آخرين ؛ فأرباب الغفلة يسكنون في ليلهم ، والمحبون يسهرون في ليلهم ، وإن كانوا في روح الوصال ؛ فلا يأخذهم النوم بكمال أنفسهم ، وإن كانوا في ألم الفراق ، فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم فالسهر للأحباب صفة أو ما لكمال السرور أو لهجوم الهموم.
ويقال : جعل النوم لقوم من الأحباب وقت التجلي ، يريهم ما لا سبيل إليه في اليقظة ، فإذا رأوا ربهم في المنام يؤثرون النوم على السهر ، وهذا كما أنشد :
ولو لا مكان الطيف لم أتهجع |
|
فلولا رجاء الوصل ما عشت ساعة |
ثم زاد منته بأن نشق نسائم روح وصاله أهل شوق جماله بقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) إذا أراد سبحانه كشف لقائه لأرواح العاشقين يرسل رياح الواردات قبل حصول كشف المشاهدات ، فيستنشقون منها نسيم الأنس ، وهم يعلمون أن ذلك مبشر كشف القدس ، والحكمة في ذلك أنه تعالى يكتسر بها قلوب المحبين غبار الحدثان ، وهواجس النفس ، والشيطان حتى لا يبقى فيها غير جمال الرحمن ؛ فإذا رأوا آثار