النكرة في قلوب العارفين بقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) فبحر المعرفة بحر الصفات ، وبحر النكرة بحر الذات (١).
ثم وصف البحرين فقال : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) فبحر الصفات عذب للعارفين إذ هي فياضة لطائفها إلى الأرواح والقلوب والعقول ، وهي أدركت نعوتها وأسماءها بنورها ففهمت وعرفت معارفها وكواشفها على قدر الطاقة لا على الحقيقة ، وبحر الذات ملح أجاج إذ امتنع بحار حقائقه عن تناول العقول والقلوب والأرواح والأسرار ، فإذا انحسرت هذه السائرات رأت في بيداء الأزل ، وانقطعت ساحتها في بحار القدم فصارت نكراتها مهلكها ، وبين بحر الصفات والذات برزخ المشيئة والإرادة لا يدخل أهل بحر الصفات بحر الذات ، ولا يرجع أهل بحر الذات إلى بحر الصفات.
قال تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] ، ولا يختلطان فمياه بحر الروح من بحار مشاهدة الألطاف ، ومياه بحر النفس ملح أجاج ، وهي من بحار القهريات.
قال ابن عطاء : تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق ، فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال ، وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفات معرضة عن سنن التوفيق ، وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ، ليس معها خطاب ولا لها جواب.
قال الأستاذ : القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان ، وبعضها محل الشرك والكفران.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))
قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أخبر سبحانه عن حقيقة التوكل بهذه الآية ، والإشارة فيها أن من له ذخيرة عظيمة غير منقطعة ؛ فإنه ساكن القلب بها ،
__________________
(١) قال حقي : من مرج الدابة خلاها وأرسلها ترعى ومرج أمرهم اختلط والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا عند الأكثر وأصله المكان الواسع الجامع للماء الكثير كما في المفردات. والمعنى خلاهما وأرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج متلاصقين بحيث لا يتمازجان ولا يلتبس أحدهما بالآخر ويدل على بعد كل منهما عن الآخر مع شدة التقارب بينهما الإشارة إلى كل منهما بأداة القرب كما يجيء ويجوز أن يكون محمولا على المقيد. تفسير حقي (٩ / ٢٤٨).